تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

إدراكها لها في دار المقامة جزئي فلا يدرك كمال الرب، جل وعلا، على حد الإحاطة الكلية مخلوق: (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)، فتراه العيون كرامة ولا تحده.

والشاهد أن الإسلام بوسطيته المعهودة في كل تقريراته العلمية والعملية يقف بين طرفي:

الكنيسة المزدرية للعقول إلى حد إجبارها بسلطانها الكهنوتي على التصديق بالمحالات.

والعلمانية المعظمة للعقول التي سوغت لها الخوض فيما وراء الطبيعيات بمعزل عن النبوات التي لا يكون غيب صحيح إلا من قبلها فهي، كما تقدم، الحكم الفصل بين العقول المتباينة عند وقوع النزاع بينها.

وعرفها آخرون بأنها: "علم الأشياء الأبدية الكلية من حيث الماهية والعلة بقدر الطاقة الإنسانية".

فجمع هذا التعريف بين أمرين لا تستقل ببيانهما إلا النبوات فمقتضاه أعسر على العقل من التعريف السابق، فليس الأمر تصورا علميا للماهية فحسب بل هو حكم عملي يستنبط من النظر في علل الأشياء، وذلك أمر، كما تقدم مرارا، يمكن حصوله في الطبيعيات مع ما فيه من تفاوت فهو نتاج عقلي يقبل النقض والمعارضة فليس وحيا معصوما لا يحتمل الخطأ، على حد وحي الكنيسة التي أقحمت نفسها في كل صغيرة وكبيرة في البحث العقلي الأوروبي فعطلته عن العمل قرونا كانت الريادة العلمية فيها للإسلام، بإيمانه بوحي صحيح في الإلهيات وعمله بعقل صريح في الطبيعيات فلم تصبه تلك الازدواجية العلمية بين علوم الدين والدنيا التي أصابت لوثتها العلمانية المعاصرة فلا يكون دين إلا حيث لا علم، ولا يكون علم إلا حيث لا دين!، ولذلك لم تتعرض النبوات للطبيعيات إلا لماما فتركت للعقل حرية البحث فيها ضمن أطر كلية شرعية وأخلاقية تضبطها فليست أطرا منهجية تحدد طريقة البحث وأدواته ....... إلخ، فذلك مما استقل به العقل فهو من لازم خلافته في الكون فلا بد أن يستنبط قواه ويوظفها في تحقيق الغاية من وجوده في هذه الحياة، غاية: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)، فالأطر الكلية كما تقدم شرعية لا يمكن للعقل أن يبحث خارجها وإلا صار بحثه وإن حقق طفرة تقنية رهيبة: وبالا عليه إذ لم يعرف الهدف منه، على حد ما قال وزير الثقافة الفرنسي في الحضارة المعاصرة، كما ينقل بعض الفضلاء المعاصرين عنه، بأنها أول حضارة في تاريخ البشرية ليس لها هدف!، مع أنها أرقى الحضارات البشرية من جهة التقدم التكنولوجي، ولكنها في نفس الوقت من أبعد الحضارات عن مقررات النبوة.

وعرفها الرواقيون أصحاب المنهج التجريدي بأنها: "معرفة الأمور الإلهية والإنسانية".

ولما كان القوم صفرا من النبوات، صارت تلك المعرفة في حقهم: معرفة مجملة تفتقر إلى الوحي المبين، كما اعترف بذلك كبار الفلاسفة الإسلاميين كابن رشد الحفيد، رحمه الله، فهو ممن خاض في علوم الأوائل وبسط القول في شرح مقررات الفلسفة الأرسطية، ثم لم يزد أن قال في "تهافت التهافت" كما نقل عنه شارح الطحاوية ابن أبي العز رحمه الله: "وَمَنِ الَّذِي قَالَ فِي الْإِلَهِيَّاتِ شَيْئًا يُعْتَدُّ بِهِ؟ ". فهي، كما تقدم مرارا، خارج نطاق البحث العقلي إلا على سبيل التسليم والانقياد للوحي المعصوم فتكون له عضدا في توكيد المعاني الإلهية التي جاء بها لا في تأسيسها بمعزل عنه.

وعرفها آخرون بأنها: "العلم بحقائق الأشياء، والعمل بما هو أصلح".

فذلك أيضا تعريف يشمل جانبي: التصور العلمي على حد اليقين، والحكم العملي على حد الصلاح، ولا يمكن، كما تقدم، أن يستقل العقل بدرك ذلك، لا سيما في الإلهيات والشرعيات، لتباين أقدار العقول، فإن النزاع بينها في معرفة الصلاح على وجه التفصبل واقع لا محالة، وتباين الدساتير الأرضية خير شاهد على ذلك، فالفلاسفة في أمة من الأمم يرون المصلحة في حكم بعينه يخالفهم فيه فلاسفة أمة أخرى، ربما كانت مجاورة لها، إذ التصور مختلف تبعا لاختلاف مصادر التلقي عند كليهما، وهكذا تتعدد مصادر التلقي فتتعدد فرعا عنها التصورات فتتعدد فرعا عنها الأحكام، وكل عقل يحسن ويقبح، فإذا صح عقلا وحسا وقوع ذلك التناقض المفضي إلى الاضطراب لزم التحاكم، كما تقدم، إلى حَكَم عدل قد شهد له حتى أعداؤه بالفضل والكمال،

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير