والرجل معظم للنصوص أيما تعظيم، فهي المتبوع، وما سواها تابع، وهي الأصل وما عداها فرد، والأصل لا يعارض بالفرع، والسلف، رضي الله عنهم، ومن تبعهم بإحسان، هم أحرص الناس على هذا الأصل الجليل.
يقول أبو العباس:
"وكان من أعظم ما أنعم الله به عليهم اعتصامهم بالكتاب والسنة فكان من الأصول المتفق عليها بين الصحابة والتابعين لهم باحسان أنه لا يقبل من أحد قط أن يعارض القرآن لا برأيه ولا ذوقه ولا معقوله ولا قياسه ولا وجده فإنهم ثبت عنهم بالبراهين القطعيات والآيات البينات أن الرسول جاء بالهدى ودين الحق وأن القرآن يهدي للتي هى أقوم فيه نبأ من قبلهم وخبر ما بعدهم وحكم بينهم هو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله ومن ابتغى الهدى فى غيره أضله الله هو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسن فلا يستطيع أن يزيغه إلى هواه ولا يحرف به لسانه ولا يخلق عن كثرة الترداد فإذا ردد مرة بعد مرة لم يخلق ولم يمل كغيره من الكلام ولا تنقضي عجائبه ولا تشبع منه العلماء من قال به صدق ومن عمل به أجر ومن حكم به عدل ومن دعي إليه هدي الى صراط مستقيم، فكان القرآن هو الإمام الذي يقتدى به ولهذا لا يوجد فى كلام أحد من السلف أنه عارض القرآن بعقل ورأي وقياس ولا بذوق ووجد ومكاشفة ولا قال قط قد تعارض فى هذا العقل والنقل فضلا عن أن يقول فيجب تقديم العقل والنقل يعنى القرآن والحديث وأقوال الصحابة والتابعين إما أن يفوض وإما أن يؤول ولا فيهم من يقول إن له ذوقا أو وجدا أو مخاطبة أو مكاشفة تخالف القرآن والحديث فضلا عن أن يدعي أحدهم أنه يأخذ من حيث يأخذ الملك الذي يأتي الرسول وأنه يأخذ من ذلك المعدن علم التوحيد والأنبياء كلهم يأخذون عن مشكاته أو يقول الولي أفضل من النبي ونحو ذلك من مقالات أهل الإلحاد فإن هذه الأقوال لم تكن حدثت بعد فى المسلمين وإنما يعرف مثل هذه إما عن ملاحدة اليهود والنصارى فإن فيهم من يجوز أن غير النبى أفضل من النبى كما قد يقوله فى الحواريين فإنهم عندهم رسل وهم يقولون بأنهم أفضل من داود وسليمان بل ومن إبراهيم وموسى وإن سموهم أنبياء الى أمثال هذه الأمور.
ولم يكن السلف يقبلون معارضة الآية إلا بآية أخرى تفسرها وتنسخها أو بسنة الرسول تفسرها فإن سنة رسول الله تبين القرآن".
بتصرف يسير من "مجموع الفتاوى"، (13/ 28، 29).
فالنص عند القوم مقدم على ما عداه، ولا يعارض النص الصحيح إلا بنص صحيح مثله، ولا يتصور التعارض أصلا بين "نقل صحيح" و "عقل صريح"، وإن توهم الناظر ذلك بادي الرأي، فإنه إما أن يكون النص أصلا غير صحيح، أو يكون العقل غير صريح، كما هو حال كثير من عقول المتكلمين والفلاسفة الذين عارضوا النصوص بشبهات وأقيسة فاسدة، أما أن يكون كلاهما محل القبول والاعتبار ويتعارضا في حقيقة الأمر، فإن ذلك غير ممكن، وإن توهمه الناظر ابتداء.
وإلى ذلك أشار ابن تيمية بقوله:
"وليس في الكتاب والسنة وإجماع الأمة شيء يخالف العقل الصريح، لأن ما خالف العقل الصريح باطل، وليس في الكتاب والسنة والإجماع باطل، ولكن فيه ألفاظ قد لا يفهمها بعض الناس، أو يفهمون منها معنى باطلا، فالآفة منهم لا من الكتاب والسنة".
"مجموع الفتاوى"، (11/ 490).
والعقل كما يقول ابن الوزير اليماني رحمه الله: "مصدر من مصادر المعرفة الدينية، إلا أنه ليس مصدرا مستقلا، بل يحتاج إلى تنبيه الشرع، وإرشاده إلى الأدلة، لأن الاعتماد على محض العقل سبيل للتفرق والتنازع".
وهذا أمر مشاهد في الواقع، فلكل منا عقل، فإلى عقل من نتحاكم إذا اختلفنا.
ولله در مالك، رحمه الله، إذ يقول:
"أو كلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما جاء به جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم لجدل هؤلاء".
ولله در أبي العباس إذ يقول:
"الناس لا يفصل بينهم النزاع إلا كتاب منزل من السماء وإذا ردوا إلي عقولهم فلكل واحد منهم عقل!!!!! ".
"درء التعارض"، (1/ 130).
¥