للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المبحث التاسع: البدايات والأصول]

لا شك أن البذور والبدايات الأولى للإرجاء وجدت بعد صفين، إما من المعادين للخوارج أو من المنشقين عنهم، كالشأن في ردود الأفعال، ولكن بروز الر أي والمجادلة فيه وبه تأخرت عن ذلك، وكان ظهورها في وقت الفتنة والاضطراب الكبير الذى عم البلاد، حين كان للأمويين دولة، ولابن الزبير دولة، وللخوارج دولة - كما سبق في حديث أبى برزة الأسلمى -.

برز الإرجاء حينئذ نتيجة المجادلات المستمرة بين الفرق - لا سيما بين الخوارج وغيرهم - وكانت الفتنة من أسباب التسرع في الرد وقدح الر أي؛ إذ لم يكن المجال ميسورا للسؤال والتأكد والأمور هائجة والأحداث متلاحقة.

وكان هذا في أواخر عصر الصحابة؛ وقد كان بعض قدماء المرجئة من صغار التابعين - كما سيأتى في تراجمهم -.

وأوثق نص ورد فيه هذا الاصطلاح هو الجامع الصحيح للإمام البخارى , فقد قال رحمه الله في كتاب الإيمان منه: " باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر ".

وقال إبراهيم التيمى: ما عرضت قولى على عملي إلا خشيت أن أكون مكذبا.

وقال ابن أبى مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم، كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول أنه على إيمان جبريل وميكائيل.

ويذكر عن الحسن: وما خافه إلا مؤمن ولا أمنه إلا منافق.

وما يحذر من الإصرار على النفاق والعصيان من غير توبة؛ لقول الله تعالى وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:١٣٥]. حدثنا محمد بن عرعرة؛ حدثنا شعبة عن زبيد؛ قال: سألت أبا وائل عن المرجئة، فقال: حدثنى عبدالله أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: ((سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)) (١).

فالآثار التى ذكرها البخارى في الترجمة تدل على أنه عقد هذا الباب للرد على المرجئة القائلين: أن الإيمان قول بلا عمل، وأن الناس يتساوون فيه، وهذا هو إرجاء الفقهاء - كما سيأتى بيانه - ثم ذكر الحديث الذى يعطينا أقرب تحديد لنشأة هذه الفرقة فالمسئول عنهم هو أبو وائل، شقيق ابن سلمى التابعى المشهور، من خيار أصحاب عبدالله ابن مسعود رضى الله عنه، وقد توفى قبل نهاية القرن الأول - مع الخلاف في تحديد تاريخ وفاته -؛ فقد قال محمد بن عثمان بن أبى شيبة: مات في زمان الحجاج، بعد الجماجم، وقال الخليفة بن خياط: مات بعد الجماجم سنة اثنتين وثمانين، وقال الواقدى: مات في خلافة عمر بن عبد العزيز، وكذلك روى عن أبى نعيم قال المذى: والمحفوظ الأول (١).

قال الحافظ في الفتح: " قوله: سألت أبا وائل عن المرجئة أي عن مقالة المرجئة، ولأبى داود الطيالسى، عن شعبة، عن زبيد، قال: لما ظهرت المرجئة أتيت أبا وائل، فذكرت ذلك له. فظهر من هذا أن سؤاله كان معتقدهم، وأن ذلك كان حين ظهورهم، وكانت وفاة أبى وائل سنة تسع وتسعين وقيل سنة اثنتين وثمانين، ففى ذلك دليل على أن بدعة الإرجاء قديمة " (٢).

هذا، وفي رواية عبد الله بن أحمد عن أبيه بسنده إلى زبيد قال: " لما تكلمت المرجئة أتيت أبا وائل فسألته الحديث، وذكر عن شعبه أنه قال: وحدثنيه الأعمش ومنصور، سمع أبا وائل عن عبدالله " (٣).

وأبو وائل عَمَّر طويلا، فقد أدرك النبى صلى الله عليه وسلم، ودفع لعامله الصدقة، لكنه لم يظفر بشرف رؤيته. وأما السائل " زبيد "، فهو زبيد بن الحارث اليامى المتوفى سنة ١٢٢ هجرى، وهو من صغار التابعين، ر أي عددا من الصحابة، ذكر أبو نعيم منهم ابن عمر وأنس (٤). ومن السؤال والجواب نستطيع أن نستنبط حقيقة القضية المسئول عنها ووجه الجواب، إذ لا ريب أن أبا وائل أفاد وشفى، وأن زبيدا فهم واكتفى!!


(١) رواه البخاري (٤٨) ومسلم (٦٤) من حديث ابن مسعود.

<<  <  ج: ص:  >  >>