للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المبحث الثاني عشر: في صلة المرجئة بالقدرية]

أن بدعة الإرجاء ظهرت قريبا من زمن بدعة القدرية. والمراد بالقدرية هنا هم القدرية الأولى، وهم القدرية النفاة، المنكرون للقدر؛ إذ "الخائضو في القدر بالباطل ثلاثة أصناف: المكذبون به، والدافعون للأمر والنهي به، والطاعنون على الرب - عز وجل - بجمعه بين الأمر والقدر، وهؤلاء شر الطوائف" (١).فالغلاة المكذبون بالقدر هم الذين ظهرت المرجئة بعدهم بزمن قريب، وهؤلاء القدرية يعظمون الأمر والنهي، والوعد والوعيد (٢).

يقول شيخ الإسلام في نشأة هذا الصنف من القدرية، بعد تقريره مرتبتي العلم والكتابة من مراتب القدر: "فهذا القدر هو الذي أنكره القدرية الذين كانوا في أواخر زمن الصحابة، ... ،, ولم يكن على عهد الخلفاء الراشدين أحد ينكر القدر، فلما ابتدع هؤلاء التكذيب بالقدر رده عليهم من بقي من الصحابة، كعبدالله بن عمرو وعبدالله بن عباس وواثلة بن الأسقع، وكان أكثره بالبصرة والشام، وقليل منه بالحجاز.

فأكثر كلام السلف في ذم هؤلاء القدرية، ولهذا قال وكيع بن الجراح:

القدرية يقولون: الأمر مستقبل، وإن الله لم يقدر الكتابة والأعمال، والمرجئة يقولون: القول يجزئ من العمل، والجهمية يقولون: المعرفة تجزئ من القول والعمل. قال وكيع: وهو كله كفر" (٣).

وقد حدد شيخ الإسلام رحمه الله زمن ظهور هذه البدعة المنكرة في قوله: "وغلاة القدرية ينكرون علمه - يعني الرب تعالى - المتقدم، وكتابته السابقة، ويزعمون أنه أمر ونهي، وهو لا يعلم من يطيعه ممن يعصيه، بل الأمر أنف، أي مستأنف.

وهذا القول أول ما حدث في الإسلام بعد انقراض عصر الخلفاء الراشدين، وبعد إمارة معاوية بن أبي سفيان، في زمن الفتنة التي كانت بين ابن الزبير وبين بني أمية، في أواخر عصر عبدالله بن عمر وعبدالله بن عباس وغيرهما من الصحابة. وكان أول من ظهر عنه ذلك بالبصرة معبد الجهني، فلما بلغ الصحابة قول هؤلاء تبرؤوا منهم، وأنكروا مقالتهم" (٤).

وإنما تم التنبيه على هذا الارتباط بين القدرية والمرجئة من حيث النشأة لوجود صلة أخرى بين القدرية والمرجئة نبه عليها شيخ الإسلام، لكن هذه الصلة من بابة أخرى، وهي أنهما يشتركان في إضعاف أمر الله، وأمر الإيمان والوعد والوعيد، ومن ثم جاءت النصوص بذمهما.

إلا أن المراد بالقدرية هنا هم الصنف الثاني من أصناف القدرية المتقدم ذكرهم، وهم من يثبت القدر ويحتج به، ويعارض به الأمر ويضعفه، لا القدرية الذين ينكرون القدر، ويعظمون الأمر. يقول شيخ الإسلام رحمه الله في بيان هذه الصلة: "ولهذا يقرنون القدرية بالمرجئة؛ لأن المرجئة تضعف أمر الإيمان والوعيد، وكذلك هؤلاء تضعف أمر الله بالإيمان والتقوى ووعيده، ومن فعل هذا كان معلونا في كل شريعة، كما روي: "لعنت القدرية والمرجئة على لسان سبعين نبيا (٥) " (٦) ".


(١) ((منهاج السنة)) (٣/ ٨٢).
(٢) انظر: ((الفتاوى)) (١٧/ ٤٤٦).
(٣) ((الإيمان)) (ص٣٦٨) ((الفتاوى)) (٧/ ٣٨٤ - ٣٨٥).
(٤) ((الفتاوى)) (٨/ ٤٥٠).
(٥) رواه ابن أبي عاصم في ((السنة))، تحقيق الشيخ الألباني، الطبعة الثانية ١٤٠٥هـ، المكتب الإسلامي ببيروت (١/ ١٤٢) (رقم ٣٢٥)، (٢/ ٤٤٨) (رقم ٩٥٢)، وقال محققه: إسناده ضعيف؛ ورواه الآجري في ((الشريعة)) (٢/ ٦٩٠ - ٦٩١) (رقم ٢٣٨)، وقال محققه: يرتقي بشواهده إلى الحسن لغيره؛ ورواه ابن بطة في ((الشرح)) و ((الإبانة))، (ص١٩٧ رقم ٢٣٨)؛ و ((الإبانة الكبرى)) (٢/ ٨٨) (رقم ١٢١٩)؛ ورواه اللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) (٥/ ٩٨٨ رقم ١٨٠٢).
(٦) ((منهاج السنة)) (٣/ ٨٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>