للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المبحث الرابع عشر: الأثر الكلامي في تطور الظاهرة]

إن الدارس لتاريخ الفكر الإسلامي عامة يجد أن أكبر غريبة وفدت عليه وامتزجت به وتركت فيه أبلغ الأثر - شكلا ومضمونا - هي ظاهرة الغزو الفلسفي الإغريقي!!

حقا إن أكبر حرب نفسية وفكرية أثيرت على الإسلام هي الغزو الفكري الحديث، الذي وفد مع الحملات الصليبية المسماة " الاستعمار ".

غير أن هذا الغزو - وإن كان لا مبرر لقبوله على الإطلاق - له تفسير معقول، وهو التفاوت الكبير في مستوى التقدم الحضاري بين الأمتين المتصارعتين.

فأمة تعاني من ضعف مزمن في كل مجالات الحياة ليس غريبا أن تخضع لغزو أمة قوية قاهرة حققت - وفق سنة الله الكونية - من الكشوفات والصناعات ما لم يكن الخيال البشري يحلم به من قبل.

أما الظاهرة المستعصية على العقل، الغريبة في تاريخ الإنسانية، فهي أن تتقبل أمة حية قوية تملك مصدرا مستقلا للمعرفة والثقافة غزوا فكريا من أمة بائدة.

ويكون الأمر أكثر استعصاء وغرابة إذا كانت الأمة المتقبلة للغزو هي أمة الوحي النقي والتوحيد الخالص، اللذين فتحت بهما قلوب الأمم، وحطمت طواغيت العالم، وبلغت من الاستعلاء بالحق ما لم تبلغه أمة قط ومع ذلك تتقبل الغزو من تراث مندثر لأمة مشركة منقرضة!!

ولست في معرض الحديث عن أسباب تقبل هذا الغزو المدمر، لكنني لا أرى بدا من التعرض لذكر سببين رئيسين له - إن لم يكونا السببين الرئيسين - وهما:

١ - التخطيط التآمري لأعداء الإسلام:

الذي انتهج أمكر الأساليب , ومنها " الغزو من الداخل " , وما ظاهرة الزندقة إلا رأس من رؤوس أفاعي الظلام، التي أكل الحقد قلوبها فقذفته سموما من الآراء والبدع والفلسفات الهدامة.

والمتأمل لرؤوس الضلالة يجد طائفة منهم تنتمي للأديان والفلسفات التي سحقها الإسلام وحرر منها العباد مثل: بشر المريسي (يهودى) (١)، عبدالله بن المقفع (مجوسي)، إبراهيم النظام (برهمي) (٢)، عبدك الصوفي (ثيوصوفي) (٣)، جابر بن حيان (؟).

وقد عرف الهدامون كيف يدخلون من أوسع الأبواب بالتدسس إلى السلطة الحاكمة والتأثير فيها لكي تتقبل هذه الأفكار، والناس من بعد لهم تبع.

وهكذا وقع لخالد بن يزيد الأموي والمأمون العباسي - وإن كان الأول أقل - وغيرهما ممن أغرته هذه الفلسفات، على أن هذا السبب يظل أقل السببين شأنا، فإن الأمة الإسلامية متى كانت مستقيمة على الإيمان لم يضرها كيد كائد ولا عداوة حاقد بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا [آل عمران:١٢٠].

٢ - المنهج التوفيقي:

إن الإيمان بالله ورسوله يحتم على الأمة الإسلامية أن تتمسك بمصدر الحق المعصوم، الذي مَنَّ الله به عليها دون سائر الأمم، وألا تتلقى من غيره فيما كفاها مؤونته، بل تحكمه في كل ما تأخذ وما تذر، وهذا أصل قطعي كلي تضافرت للدلالة عليه الآيات والأحاديث. ومنها: عن جابر بن عبدالله أن عمر بن الخطاب أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتب، فقرأه النبي صلى الله عليه وسلم فغضب فقال: ((أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به أو باطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى - صلى الله عليه وسلم - كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني)) (٤)،


(١) كما نص عليه الدرامى والإمام أحمد وغيرهما.
(٢) ذكر بعض العلماء أنه كان يخفى برهميته بالاعتزال ليفسد دين الإسلام، وكتبه تدل على ذلك، انظر: ((سير أعلام النبلاء)) (١٠/ ٤٥٢).
(٣) والثيوصوفية هى أصل الصوفية ومعناها الحكماء الإلهيون، وقد ذكره الملطي ضمن الزنادقة.
(٤) حديث صحيح، رواه أحمد (٣/ ٣٨٧)

<<  <  ج: ص:  >  >>