للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المبحث الرابع: زيادة الإيمان ونقصانه عند الجهمية]

أن المرجئة على اختلاف فرقهم يمنعون الزيادة والنقصان في الإيمان، ولم تخرج الجهمية عن الضلال في هذه المسألة، سواء في منعهم تفاضل الإيمان، أو في منشأ الغلط. يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "ووافقتهم - يعني الخوارج والمعتزلة -: المرجئة والجهمية على أن الإيمان يزول كله بزوال شيء منه، وأنه لا يتبعض، ولا يتفاضل، فلا يزيد ولا ينقص، وقالوا إن إيمان الفساق كإيمان الأنبياء والمؤمنين" (١).

ويقول بعد كلام له عن المعرفة: "هذا مبني على أن المعرفة بالله تعالى لا تتفاضل، وأن الشيء لا يكون معلوما من وجه، مجهولا من وجه. وهذا أحد القولين للناس في هذه المسألة، وهو قول الطائفة من أهل الحديث والفقهاء، من أصحاب أحمد وغيرهم، وقول كثير من أصحاب الأشعري، أو أكثرهم، وهو قول جهم بن صفوان، وكثير من المرجئة" (٢).فقول الجهمية كقول سائر المرجئة في منع الزيادة والنقصان في الإيمان، وأن وقوع التفاضل إنما هو في الأعمال فحسب، والأعمال ليست من الإيمان (٣).وشبهة الجهمية مبنية "على أن الإيمان هو مجرد التصديق والاعتقاد الجازم، وهو لم يتغير، وإنما نقصت شرائع الإسلام" (٤).

وهذا بناء على ظنهم أن الإيمان نوع واحد لا يقبل التعدد، ولا التفاضل.

وقد تقدم بحمد الله نقص دعوى أن الإيمان نوع واحد، وتقرير وقوع التفاضل من جهة أمر الرب تعالى، ومن جهة فعل العبد.

ويضاف هنا ما أورده شيخ الإسلام عما توهمه بعضهم من أن الإيمان من حيث هو نوع واحد لا يقبل التفاضل. يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "وأما الجهمية فهو - يعني الإيمان - واحد عندهم، لا يقبل التعدد، فيثبتون واحدا لا حقيقة له" (٥).

ثم قال في إبطال ذلك:

"وهم لما توهموا أن الإيمان الواجب على جميع الناس نوع واحد، صار بعضهم يظن أن ذلك النوع من حيث هو لا يقبل التفاضل.

فقال لي مرة بعضهم: الإيمان من حيث إيمان لا يقبل الزيادة والنقصان؟

فقلت له: قولك من حيث هو، كما يقول: الإنسان من حيث هو إنسان، والحيوان من حيث هو حيوان، والوجود من حيث هو وجود، والسواد من حيث هو سواد، وأمثال ذلك، لا يقبل الزيادة والنقصان والصفات، فيثبت لهذه المسميات وجودا مطلقا مجردا عن جميع القيود والصفات، وهذا لا حقيقة له في الخارج، وإنما قائما بنفسه ولا بغيره، ويقدر إنسانا لا موجودا ولا معدوما، ويقول الماهية من حيث هي هي لا توصف بوجود ولا عدم، والماهية من حيث هي هي شيء يقدره الذهن، وذلك موجود في الذهن لا في الخارج، وأما تقدير شيء لا يكون في الذهن ولا في الخارج فممتنع، وهذا التقدير لا يكون إلا في الذهن كسائر تقدير الأمور الممتنعة، مثل تقدير صدور العالم عن صانعين، ونحو ذلك، فإن هذه المقدرات في الذهن.

فهكذا تقدير إيمان لا يتصف به مؤمن، بل هو مجرد عن كل قيد، وتقدير إنسان لا يكون موجودا ولا معدوما، بل ما ثم إيمان إلا مع المؤمنين، ولا ثم إنسانية إلا ما اتصف بها الإنسان، فكل إنسان له إنسانية تخصه، وكل مؤمن له إيمان يخصه، فإنسانية زيد تشبه إنسانية عمرو، ليست هي هي، وإذا اشتركوا في نوع الإنسانية، فمعنى ذلك أنهما يشتبهان فيما يوجد في الخارج، ويتشركان في أمر كلي مطلق يكون في الذهن.


(١) ((شرح الأصبهانية)) (٢/ ٥٧٤، ص١٣٨) ت مخلوف.
(٢) ((درء التعارض)) (٧/ ٤٥١).
(٣) انظر: ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (٧/ ٥٦٢، ص٤٥٨) ط. ابن الجوزي؛ و ((الفتاوى)) (١٨/ ٢٧١)؛ و ((درء التعارض)) (٧/ ٤٥١).
(٤) ((الفتاوى)) (٧/ ٦٧١).
(٥) ((الإيمان)) (ص٣٨٧) ((الفتاوى)) (٧/ ٤٠٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>