للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المبحث السابع: في ذكر أدلتهم وشبههم وبيان بطلانها]

لقد تعلق أهل هذا القول بشبه نظرية وحجج عقلية، احتكموا إليها في هذه المسألة وردوا النزاع إليها، وهي في الحقيقة حجج إذا تدبرها العاقل بحق وجدها دعاوى لا تقوم على دليل، وحججاً لا تعتمد على برهان، وإنما تعتمد أولاً وآخراً على رأيهم القاصر، وعلى ما تأولوه بفهمهم للغة العرب. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وهذه طريقة أهل البدع، ولهذا كان الإمام أحمد يقول أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل والقياس. ولهذا تجد المعتزلة والرافضة وغيرهم من أهل البدع يفسرون القرآن برأيهم وما تأولوه من اللغة، ولهذا تجدهم لا يعتمدون على أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين وأئمة المسلمين، فلا يعتمدون على السنة ولا على إجماع السلف وآثارهم، وإنما يعتمدون على العقل واللغة، وتجدهم لا يعتمدون على كتب التفسير المأثورة والحديث وآثار السلف، وإنما يعتمدون على كتب الأدب وكتب الكلام التي وضعتها رؤوسهم" (١).

قلت: ومن يتأمل كلام شيخ الإسلام السالف يجد أنه رحمه الله يحكي ترجمة حرفية لواقع أهل البدع في مجال الحجج والبراهين، ويكشف حال هؤلاء كشفاً دقيقاً، وهو واقع يشمل عامة أهل البدع بدون استثناء؛ لأن من جاء بباطل فليس في القرآن أو السنة ما يدل على باطله أو يؤيده، إذاً فلا حجة له رأيه السقيم وفهمه القاصر للغة.

وجميع ما وقفت عليه من حجج لهؤلاء في هذه المسألة لا يخرج عما ذكره شيخ الإسلام - رحمه الله - غير أن بعضهم تكايس فأضاف في الاستدلال بعض ما وقف عليه من أحاديث موضوعة ترفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم كذباً وزوراً.

أما كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة فلا حجة لهم فيهما؛ لأنهما يدلان صراحة على زيادة الإيمان ونقصانه، فهم على هذا بين خيارين:

إما أن يدعوا قولهم ويتركوا رأيهم أتباعاً لما جاء في الكتاب والسنة، فيصيبوا الحق بهذا ويوافقوه، أو أن يعتمدوا على عقولهم ويستمسكوا برأيهم، فيفارقوا الحق ويجانبوه، ويكون بعدهم عن الحق بقدر بعدهم عما جاء في الكتاب والسنة.

وبهذا تعتبر في قلة أخطاء السلف الصالح وكثرة موافقتهم للحق والصواب في مسائل الشرع والدين، وكثرة أخطاء من بعدهم ممن لم يكن على نهجهم، لاعتصام السلف بالكتاب والسنة وتمسكهم بهما، ولاعتماد الخلف على العقول الكاسدة والآراء الفاسدة ولجوئهم إليها، وشتان بين الفريقين.

وبعد هذا التمهيد الذي لا بد منه، أعرض أهم شبه هؤلاء وأبرز دلائلهم في هذه المسألة، ثم أتبع كل شبهة بما يبين بطلانها ويكشف زيفها، مستمداً العون والتوفيق من الله وحده.

الشبهة الأولي:

وهي عمدة جميع من قال بهذا القول من مرجئة وخوارج ومعتزلة وغيرهم، وهي: قولهم إن الإيمان كل واحد لا يتجزأ إذا ذهب بعضه ذهب كله، وعليه فهو لا يزيد ولا ينقص.

إلا أن الفرق بين الخوارج والمعتزلة وبين المرجئة مع اتفاق الجميع على القول بهذه الشبهة، هو أن الخوارج والمعتزلة قالوا إن فعل الواجبات وترك المحرمات من الإيمان، فإذا ذهب بعض ذلك ذهب الإيمان كله، فلا يكون مع الفاسق إيمان أصلاً بحال، ويكون يوم القيامة مخلداً في النار. وأما المرجئة، فقالوا: إنه لا يخلد في النار من أهل التوحيد أحد، ثم ظنوا أن هذا لا يكون إلا مع وجود كمال الإيمان، لاعتقادهم أن الإيمان لا يتبعض، فقالوا كل فاسق فهو كامل الإيمان، وإيمان الخلق متماثل لا متفاضل وإنما التفاضل في غير الإيمان من الأعمال (٢).


(١) ((الفتاوى)) (٧/ ١١٨، ١١٩).
(٢) انظر ((الفتاوى)) (١٨/ ٢٧٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>