للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المبحث التاسع: في ذكر سبب نشوء الخلاف في هذه المسألة]

بعد طول العرض لأقوال الناس في هذه المسألة من قائل بزيادة الإيمان ونقصانه إلى قائل بالزيادة دون النقصان على قائل بعدم الزيادة والنقصان قد ينقدح في ذهن القارئ تساؤل يطلب جوابه، وهو ما الذي أثار هذه القضية بين المسلمين، وجعلها تبحث هذا البحث، ويدور حولها هذا الجدل الطويل العريض بين متجاذبين منهم المحق ومنهم المبطل؟

أما كان الناس زمن الصحابة رضي الله عنهم يقرأون القرآن الكريم ويسمعون السنة النبوية ويعلمون منهما أن الإيمان يزيد وينقص، ويحس بذلك كل واحد منهم في نفسه وفي إخوانه وجلسائه، ولأجله كانوا يجلسون مجالس ذكر وإيمان يطلبون فيها زيادة الإيمان ويجانبون مجالس اللغو واللهو، ويحذرون منها خشية نقصان الإيمان، ولا يعرف في أزمانهم مخالف لهم في ذلك، بل إن ذلك يعد بمثابة الإجماع منهم. فما الذي جعل بعض من جاء بعدهم يتشكك في هذا الأمر، ويستريب منه، ويضع دونه شبهاً وأستفهامات؟

وما الذي جعل البعض يدعي أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص رغم وضوح الأمر وبيانه وعدم خفائه حتى إنه ليقال فيه إنه أمر معلوم من الدين بالضرورة؟

وما الذي كان وراء نشوء هذه المسألة وحدوثها بعد أن لم تكن معروفة قبل؟

فهذا سؤال يطرح نفسه - كما يقولون -، والجواب عنه أن يقال: الأمر كما ذكر لم يكن بين الصحابة رضي الله عنهم أي خلاف في هذا الأمر بل ولا في غيره من مسائل أصول الدين وأساسياته، وإنما الخلاف في ذلك نجم بعدهم، وذر قرنه في أواخر زمانهم، "والصحابة رضي الله عنهم كانوا أقل فتناً من سائر من بعدهم فإنه كلما تأخر العصر عن النبوة كثر التفرق والخلاف، ولهذا لم تحدث في خلافه عثمان بدعة ظاهرة، فلما قتل وتفرق الناس حدثت بدعتان متقابلتان بدعة الخوارج المكفرين لعلي، وبدعة الرافضة المدعين لإمامته وعصمته أو نبوته أو إلاهيته. ثم لما كان في آخر عصر الصحابة في إمارة ابن الزبير وعبدالملك حدثت بدعة المرجئة والقدرية، ثم لما كان في أول عصر التابعين في أواخر الخلافة الأموية حدثت بدعة الجهمية المعطلة، والمشبهة الممثلة، ولم يكن على عهد الصحابة شيء من ذلك" (١).وهكذا بدأت الفتن تتابع، ونار الأهواء تضطرم وتتفاقم فكثرت البدع في الأمة وفشت، وتزايدت الفرق وكثرت حتى تحقق في الأمة قول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: ((وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلهم في النار إلا واحدة)) (٢).

ولا شك أن وراء تلك الفتن أناس حاقدون على الإسلام وأهله يسوؤهم انتشار هذا الدين ويغيظهم كثرة أهله فجهدوا في إضرام تلك النار وتفانوا في إشعالها أمثال عبدالله بن سبأ اليهودي، والجعد بن درهم، والجهم بن صفوان وغيرهم من رؤوس الضلال.


(١) ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (٦/ ٢٣١).
(٢) رواه الترمذي (٢٦٤١) من حديث عبد الله بن عمرو, وقال غريب لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه, وقال البغوي في ((شرح السنة)) (١/ ١٨٥): ثابت, وقال ابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (٢٤/ ١٧١): مشهور, وحسنه الألباني.

<<  <  ج: ص:  >  >>