للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المبحث الحادي عشر: في الكلام عن الخلاف في هذه المسألة هل هو لفظي أو حقيقي؟ كأن معالم هذا الموضوع والقول الفصل فيه بان واتضح في عطف المبحث السابق، لكن ذلك لا يمنع من أن نفرده هنا ليأخذ نصيبه من البحث والتجلية، وبخاصة أنني قد وقفت على كم هائل من أقوال للمتكلمين يزعمون فيها أن الخلاف في هذه المسألة لفظي وليس حقيقياً، وصوري وليس جوهرياً (١).

وهذا القول منهم مبني على وهمهم السابق الذي تقدم التنبيه عليه وعلى غلطه. ولا أطيل بالنقل عن كل من وقفت على أنه قال بذلك، وإنما اكتفي بالإشارة على بعضهم فقط ولا سيما وأن دعوى الجميع واحدة وشبهتهم متكررة وهي: إعادتهم الخلاف في المسألة إلى الخلاف في تعريف الإيمان. قال الكستلي في حاشيته على النسفية: "ولهذا ذهب الإمام الرازي وكثير من المتكلمين إلى أن هذا النزاع لفظي، راجع على تفسير الإيمان وهو التحقيق الذي يجب أن يعول عليه" (٢).وقال الفرهاري في النبراس شرح العقائد: "وملخص كلامهم أن النزاع لفظي لأنه فرع تفسير الإيمان، فإن قلنا الإيمان هو التصديق فلا يقبل التفاوت إنما هو في الظن، وإن قلنا الأعمال داخلة فيه فهو يقبله" (٣).وقال كمال بن أبي شريف: "فلا خلاف في المعنى بين القائلين بقبوله الزيادة والنقصان والنافين لذلك" (٤).وقال الزبيدي في الإتحاف: "وجدت بخط بعض المحصلين ما نصه: قال الإمام البحث في زيادة الإيمان ونقصانه لفظي لأنه إن كان المراد بالإيمان التصديق فلا يقبلهما، وغن كان الطاعات فيقبلهما، فالطاعات مكملة للتصديق، فكلما قام من الدليل على أن الإيمان لا يقبل الزيادة والنقصان كان مصروفاً إلى أصل الإيمان الذي هو التصديق وكل ما دل على كون الإيمان يقبل الزيادة والنقصان فهو مصروف إلى الكامل وهو المقرون بالعمل" (٥).

فهكذا يزعم جميع هؤلاء وغيرهم أن الخلاف في المسألة لفظي، وإنني لأستاءل كيف يكون لفظياً وهو يناقض القرآن والسنة، ويخالفهما تماماً، وهو على الضد تماماً لما جاء فيهما، حتى أوقع أهله في مصادمات صريحة ومعارضات واضحة لنصوص الوحي المصرحة بزيادة الإيمان ونقصانه، مما أداهم إلى التكلف في تأويلها وصرفها عن ظاهرها، وعدم التسليم لها، كما سبق تفصيله وبيان ما ترتب عليه من فساد وشر في مبحث مستقل، فلو كان كما يقولون إنه لفظي فما الداعي إلى تلك التأويلات المتكلفة والتعسفات الواضحة في حمل النصوص على غير ظواهرها، أفلا أراحوا المسلمين من ذاك الغثاء إن كان الخلاف لفظياً؟

بل كيف يكون لفيظاً والقولان متضادان تماماً ومتغايران، أحدهما ينفي، والآخر يثبت في شيء واحد فهل من جمع بين ضدين أو تأليف بين نقيضين، فلو قال أحد - على سبيل المثال - عن شيء هو موجود، وقال غيره هو غير موجود، هل يمكن أن يقال إن خلافهما لفظي، إلا بتفلسفات متعسفة أو منطقيات متكلفة، ما أنزل الله بها من سلطان.


(١) أنظر ((المسامرة شرح المسايرة)) (ص٣٧٣)، و ((النبراس شرح العقائد)) (ص٤٠٥)، و ((الإتحاف السادة المتقين)) (٢/ ٢٦١)، و ((حاشية الكستلي على النسفية)) (ص١٥٨)، و ((جوهرة التوحيد)) (ص١٢)، و ((فيض الباري)) (١/ ٥٩، ٦٣، ٦٤)، و ((تحفة القارئ)) (ص٤٨، ٥٦)، و ((قواعد في علوم الحديث٩٩ للتهانوي (ص٢٣٥)، و ((الإيمان)) لمحمد نعيم ياسين (ص١٥١)، وغيرها.
(٢) ((حاشية الكستلي على النسفية)) (ص١٥٨).
(٣) ((النبراس)) (ص٤٠٥).
(٤) ((المسامرة شرح المسايرة)) (ص٣٧٣).
(٥) ((إتحاف السادة المتقين)) (٢/ ٢٦١).

<<  <  ج: ص:  >  >>