للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المبحث الأول: الاستثناء في الإيمان عند مرجئة الفقهاء]

اختلفت مذاهب الناس في الاستثناء في الإيمان، وقد حكاها شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، فقال:

"وصار الناس في الاستثناء على ثلاثة أقوال:

قول: أنه يجب الاستثناء، ومن لم يستثن كان مبتدعا.

وقول: أن الاستثناء محظور، فإنه يتقضي الشك في الإيمان. والقول الثالث - أوسطها وأعدلها -: أنه يجوز الاستثناء باعتبار، وتركه باعتبار" (١).

ومرجئة الفقهاء من القائلين بتحريم الاستثناء في الإيمان، فلا يجوز عندهم أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، وما شابه ذلك من الألفاظ الدالة على تعليق الإيمان بالمشيئة. يقول شيخ الإسلام: "وأنكر حماد بن أبي سليمان ومن اتبعه، تفاضل الإيمان، ودخول الأعمال فيه، والاستثناء فيه، وهؤلاء من مرجئة الفقهاء" (٢).ويقول: "وأبو حنيفة وأصحابه لا يجوزون الاستثناء في الإيمان" (٣).

وأما حجتهم على ما ذهبوا إليه في الاستثناء، فذكرها شيخ الإسلام متبعا لها بالجواب والرد، وهذا عرض لذلك: أولاً: قالوا: إن الإيمان هو الإيمان الموجود فينا، ونحن نقطع بأنا مصدقون، فالاستثناء شك (٤).وهذه حجة مشتركة بين المانعين للاستثناء من المرجئة، يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: "المؤمن يعلم من نفسه أنه لا يكذب الله ورسوله يقينا، وهذا مستند من قال: أنا مؤمن حقا، فإنه أراد بذلك ما يعلمه من نفسه من التصديق الجازم" (٥).ويقول: "وقالت المرجئة، والمعتزلة: لا يجوز الاستثناء فيه - يعني الإيمان -، بل هو شك" (٦).

والجواب عن هذا بأن المستثنى لم يرد وقوعه على أصل الإيمان، ولا على ما يجب الجزم به، ثم لو أراد وقوعه على ما يجب الجزم به لجاز له ذلك، وقد تقدم بحمد الله تحرير ذلك.

وقد نبه شيخ الإسلام على أن جزم المرجئة في الإيمان مبني على كونهم يرون أن الإيمان شيء متماثل في جميع أهله، مثل كون كل إنسان له رأس، فيقول: أحدهم: أنا مؤمن حقا، وأنا مؤمن عند الله، ونحو ذلك. ومن جزم بالإيمان على هذا الوجه، فقد أخرج الأعمال الباطنة والظاهرة عن الإيمان، وهذا منكر من القول وزور عند الصحابة والتابعين، ومن اتبعهم من سائر المسلمين (٧).

ثانيا: قالوا إن الإيمان إذا علق بالشرط فإنه كسائر المعلقات لا يحصل إلا عند حصول الشرط، والإيمان قد حصل، فلا حاجة لتعليقه بشرط المشيئة. وقالوا: لأن الاستثناء عقب الكلام يرفع الكلام، فكذلك الاستثناء عقب الإيمان يرفع الإيمان (٨).

وهذه الشبهة تكلم عليها شيخ الإسلام رحمه الله بكلام مطول هذا ملخصه:

قال رحمه الله: "وأبو حنيفة وأصحابه لا يجوزون الاستثناء في الإيمان، بكون الأعمال منه، ويذمون المرجئة، والمرجئة عندهم الذين لا يوجبون الفرائض، ولا اجتناب المحارم، بل يكتفون بالإيمان.

وقد علل تحريم الاستثناء فيه بأنه لا يصح تعليقه على الشرط؛ لأن المعلق على الشرط لا يوجد إلا عند وجوده، كما قالوا في قوله: أنت طالق إن شاء الله.

فإذا علق الإيمان بالشرط، كسائر المعلقات بالشرط، لا يحصل إلا عند حصول الشرط.


(١) ((الفتاوى)) (١٣/ ٤٠).
(٢) ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (٧/ ٥٠٧)، (ص٣٧٢) ط. ابن الجوزي.
(٣) ((مجموع الفتاوى)) (١٣/ ٤٢)؛ وانظر منها (٧/ ٦٦٦ – ٣٥/ ٣١٣).
(٤) انظر: ((الفتاوى)) (١٣/ ٤٠).
(٥) ((الإيمان)) (ص٢٩٠) ((الفتاوى)) (٧/ ٣٠٦).
(٦) ((الفتاوى)) (٧/ ٦٦٦).
(٧) انظر: ((الإيمان)) (ص٣٥٨ - ٣٥٩) ((الفتاوى)) (٧/ ٣٧٥).
(٨) انظر: ((الروضة البهية فيما بين الأشاعرة والماتريدية))، لأبي عذبة، تحقيق عبدالرحمن عميرة، الطبعة الأولى ١٤٠٩هـ، دار عالم الكتب ببيروت، (ص١٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>