للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المبحث الثاني: الاستثناء في الإيمان عند الجهمية]

منعت الجهمية الاستثناء في الإيمان، بحجة أن الاستثناء شك، والواجب في الإيمان القطع، وأن من يستثني هم الشكاكة.

يقول شيخ الإسلام: "وأما الاستثناء في الإيمان بقول الرجل: أنا مؤمن إن شاء الله، فالناس فيه على ثلاثة أقوال:

منهم من يوجبه، ومنهم من يحرمه، ومنهم من يجوز الأمرين باعتبارين - وهذا أصح الأقوال -.

فالذين يحرمونه هم: المرجئة: والجهمية، ونحوهم ممن يجعل الإيمان شيئا واحدا يعلمه الإنسان من نفسه، كالتصديق بالرب، ونحو ذلك مما في قلبه.

فيقول أحدهم: أنا أعمل أني مؤمن، كما أعلم أني تكلمت بالشهادتين، وكما أعلم أني قرأت الفاتحة، وكما أعلم أني أحب رسول الله، وأني أبغض اليهود والنصارى، فقولي: أنا مؤمن، كقولي أنا مسلم، وكقولي: تكلمت بالشهادتين، وقرأت الفاتحة، وكقولي: أنا أبغض اليهود والنصارى، ونحو ذلك من الأمور الحاضرة التي أنا أعلم بها، وأقطع بها.

وكما أنه لا يجوز أن يقال: أنا قرأت الفاتحة إن شاء الله، كذلك لا يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، لكن إذا كان يشك في ذلك، فيقول: فعلته إن شاء الله. قالوا: فمن استثنى في إيمانه فهو شاك فهو، وسموهم الشكاكة" (١).

وما تقدم يبين أن مأخذ المانعين للاستثناء من الجهمية وغيرهم هو وقع الاستثناء على جهة معينة، وهي ما يتيقنه الإنسان في قلبه من الإيمان، وطروء الشك على اليقين ينافيه، فيكون كفرا، فيحرم حينئذ الاستثناء.

وقد مر في كلام شيخ الإسلام أهمية معرفة مآخذ الاستثناء في الإيمان؛ إذ بها تنجلي حقيقة الخلاف في هذه المسألة، وأنه يكاد يكون لفظيا؛ فالذي حرمه فريق، غير الذي استحسنه الفريق الآخر.

وقد نبه شيخ الإسلام قد الله روحه إلى ما وراء ذلك، مما يتخذه أهل البدع وسيلة لمقاصدهم الفاسدة.

فمثلا هنا عند المانعين للاستثناء في الإيمان؛ لعلة أنه شك فيما يجب فيه اليقين بزعمهم، صاروا يوردون هذا السؤال: أمؤمن أنت؟

فيظن الظان أن مقصدهم دفع الشك، وحقيقة الأمر أنه لتقرير مذهبهم في أن الاستثناء في الإيمان شك، والواجب فيه القطع، وتجاهلوا المآخذ الأخرى المجبرة للاستثناء. ولذا نجد أن أئمة السلف منعوا هذا السؤال، وعدوه بدعة (٢)، وكرهوا الجواب عليه، أو فصلوا في الجواب.

يقول شيخ الإسلام رحمة الله عليه: "وقد كان أحمد وغيره من السلف مع هذا يكرهون سؤال الرجل لغيره: أمؤمن أنت؟، ويكرهون الجواب.

لأن هذه بدعة أحدثها المرجئة؛ ليحتجوا بها لقولهم، فإن الرجل يعلم من نفسه أنه ليس بكافر، بل يجد قلبه مصدقا بما جاء به الرسول، فيقول: أنا مؤمن، فيثبت أن الإيمان هو التصديق؛ لأنك تجزم بأنك مؤمن، ولا تجزم بأنك فعلت كل ما أمرت به. فلما علم السلف مقصدهم صاروا يكرهون الجواب، أو يفصلون في الجواب" (٣).

المصدر:آراء المرجئة في مصنفات شيخ الإسلام ابن تيمية لعبدالله محمد السند - ص ٤٦٩


(١) ((الإيمان)) (ص٤١٠) ((الفتاوى)) (٧/ ٤٢٩)؛ وانظر: ((الفتاوى)) (١٣/ ٤٠)؛ وفي نبز المرجئة لأهل السنة بأنهم شكاكة انظر أيضا: ((الفتاوى)) (١٣/ ١١١).
(٢) انظر: ((الشريعة)) (٢/ ٦٦٧، ٦٧١، ٦٧٣)؛ و ((الإبانة)) (٢/ ٨٨١ - ٨٨٣)؛ و ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) (٥/ ٩٨٨) (رقم ١٨٠٤).
(٣) ((الإيمان)) (ص٤٢٩) ((الفتاوى)) (٧/ ٤٤٨ - ٤٤٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>