للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المبحث الثاني: مجال العقل في الإسلام]

ولكن الإسلام بعد هذا التكريم كله وذلك الاهتمام قد حدد للعقل مجالاته التي يخوض فيها حتى لا يضل. وفي هذا تكريم له أيضاً لأنه محدود الطاقات والملكات فلا يستطيع أن يدرك كل الحقائق مهما أوتي من قدرة وطاقة على الاستيعاب والإدراك لذا فإنه سيظل بعيداً عن متناول كثير من الحقائق وإذا ما حاول الخوض فيها التبست عليه الأمور وتخبط في الظلمات وفي هذا مدعاة لوقوعه في كثير من الأخطاء وركوبه متن العديد من الأخطار.

فأمر الإسلام العقل بالاستسلام والإمتثال للأمر الشرعي الصريح حتى ولو لم يدرك الحكمة والسبب في ذلك وقد كانت أول معصية لله ارتكبت بسبب عدم هذا الامتثال فحينما أمر الله سبحانه وتعالى إبليس بالسجود لآدم عليه السلام استكبر وعصى واستبد برأيه فقارن بين خلقه وخلق آدم عليه السلام قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ [ص: ٧٦] فلم يمتثل للأمر طلباً للسبب الذي يسجد لأجله الفاضل للمفضول حسب رأيه فلما لم يدرك عقله السبب رفض الامتثال فكانت المعصية وكانت العقوبة. لذا منع الإسلام العقل من الخوص فيما لا يدركه ولا يكون في متناول إدراكه كالذات الآلهية والأرواح في ماهيتها ونحو ذلك فقال عليه الصلاة والسلام ((تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله)) (١) وقال صلى الله عليه وسلم ((لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال هذا خلق الله فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئاً فليقل آمنت بالله)) (٢). وعن الروح قال تعالى وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء: ٨٥] فصرف الجواب عن ماهيتها لأنه ليس من شؤون العقل السؤال عنها ولا من مداركه. وكذلك الجنة ونعيمها والنار وجحيمها وكيفية ذلك وغيرها من الغيبيات التي ليست في متناول العقل ومداركه. وعلى هذا مضى المسلمون في العصر الأول من الإسلام عرفوا ما للعقل فدرسوه وحفظوه وما ليس له فاجتنبوه بل اجتنبوا من عرف بالأهواء والسؤال عن المتشابه فهذا "صبيغ بن عسل جعل يسأل عن متشابه القرآن في أجناد المسلمين حتى قدم مصر فبعث به عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما فلما أتاه الرسول بالكتاب فقرأه قال: أين الرجل؟ أبصر لا يكون ذهب فتصيبك مني العقوبة الوجيعة. فأتى به. فقال عمر: سبيل محدثه فضربه وأعاده إلى أرضه وكتب إلى أبي موسى الأشعري أن لا يجالسه أحد من المسلمين قال أبو عثمان النهدي فلو جاءنا ونحن مئة لتفرقنا عنه (٣).ولا يعني هذا أن العصر الإسلامي كان خالياً كل الخلو من الآراء الشاذة بل وجد في وقته عليه الصلاة والسلام ولكن كان لوجوده صلى الله عليه وسلم ونزول الوحي حينئذ القضاء على تلك الآراء في مهدها فالمنافقون قالوا يوم أحد عن إخوانهم لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ [آل عمران: ١٥٦] فهل هذا إلا تصريح بإنكار القدر (٤).وقالت طائفة من المشركين لَوْ شَاء اللهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ [النحل: ٣٥] فهل هذا إلا تصريح بالجبر (٥).

بل إن منهم من جادل في ذات الله وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ [الرعد: ١٣].

ولكن هذه الآراء لم يتبنها أصحابها ويدعوا لها ويؤلفوا عنها وينشروها بين الناس بل كانت تنطفئ في مهدها كما ذكرنا.

المصدر:منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير لفهد الرومي - ص ٢٩


(١) رواه الطبراني في ((الأوسط)) (٦٣١٩) والبيهقي في ((االشعب)) (١/ ١٠٧) قال ابن عدي في ((الكامل)) (٨/ ٣٨٥): (فيه) الوازع بن نافع عامة ما يرويه غير محفوظ. وقال البيهقي: في إسناده نظر.
(٢) رواه مسلم (١٣٤) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(٣) ((تهذيب تاريخ ابن عساكر)): هذبه عبدالقادر بن أحمد الدومي المعروف بابن بدران (٦/ ٣٨٥).
(٤) ((الملل والنحل)) للشهرستاني ت محمد سيد كيلاني الجزء الأول (ص٢٢).
(٥) ((الملل والنحل)) للشهرستاني ت محمد سيد كيلاني الجزء الأول (ص٢٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>