للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المبحث الثاني: أثر أصولهم الخمسة العقدية في آرائهم الأصولية]

إذا نظرنا إلى أصول المعتزلة الخمسة العقدية، وهي: التوحيد والعدل، والوعد والوعيد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.

وجدنا أن من أهم هذه الأصول على الإطلاق عندهم، التوحيد والعدل، ولهذا فإنهم يفخرون بتسميتهم (الموحدة) و (العدلية)، أو (أهل العدل والتوحيد). وبناء على ذلك، فإنهم يجعلون التوحيد أصلا مستقلا، ويجعلون العدل أصلا مستقلا كذلك، إلا أنه لا يمكن فصل العدل عن التوحيد عندهم أبدا، بل هو مترتب ومبني عليه، ولهذا قالوا: (والأصل في ذلك أن الذي يلزم العلم به أولا هو التوحيد، ويرتب عليه العدل لوجهين: أحدهما: أن العلم بالعدل علم بأفعاله تعالى، فلا بد من تقدم العلم بذاته ليصح أن نتكلم في أفعاله التي هي كلام في غيره، والثاني: أنا إنما نستدل على العدل بكونه عالما وغنيا، وذلك من باب التوحيد، فلا بد من تقدم العلم بالتوحيد لينبني العدل عليه) (١).

وأما بقية الأصول عندهم فإنهم يجعلونها مندرجة تحت أصل (العدل) ومما يؤيد ذلك التساؤل الذي أورده القاضي عبد الجبار، وأجاب عنه، فقال: (فإن قيل: ألستم تقولون: الأصول خمسة، وتعدون فيها الوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قيل له: كل ذلك يدخل في العدل، لأنا إذا نزهناه عن الخلف والكذب والتعمية، بطل قول المرجئة، فإذا بينا جنس ما تعبد به، ثبت ما نقوله في المنزلة بين المنزلتين، وكذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (٢).وقالوا أيضا: (وإذا دخل تحت العدل النبوات والشرائع، فقد دخل تحته الوعد والوعيد، لأن العلم بهما على الحد الذي نثبت الآن هو من جهة السمع، وكذلك إذا وجب أن يعرفنا الله مصالحنا، فقد تضمن ذلك بيان المنزلة بين المنزلتين، لأن علينا تكليفا فيما نجريه من الأحكام على المكلفين، ومن تسميتهم بأسماء مخصوصة، لما لنا في ذلك من ضروب اللطف والصلاح، وكذلك فقد تضمن وجوب تكليفنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لما لنا فيه من الصلاح) (٣).

وإذا تقرر أن التوحيد والعدل، هما الأصلان الرئيسان عندهم، فقد كان لهذين الأصلين أثر كبير في مسائل أصول الفقه بالنسبة لهم.

ومن المسائل الأصولية التي كان لأصل (التوحيد) أثر كبير فيهما عندهم، مسألة "الفعل ذو الوجهين يصح أن يتعلق به الأمر والنهي".

ولهذا فقد ذهب أبو هاشم إلى أن السجود بين يدي الصنم مع قصد التقرب إلى الله ليس بمحرم. وعلل ذلك قائل: (إن السجود لا تختلف صفته، وإنما المحظور القصد) (٤).

وبما أنه لم يقصد بسجوده غير الله تعالى، فلا يكون هذا السجود محرما، ولا يكون صاحبه مشركا، لكونه موحدا إذا أوقع السجود قاصدا به وجه الله تعالى.

وسيأتي بيان هذه المسألة مفصلا في موضعه من هذا البحث بمشيئة الله تعالى.

ومن مسائل أصول الفقه التي كان لأصل (العدل) أثر كبير فيها بالنسبة لهم، ما يلي:

أولا – مسألة عدم تكليف المكره:

فعند المعتزلة أن المكره لا يدخل تحت التكليف، لأن ذلك محال، إذ لا يصح منه فعل غير ما أكره عليه، ولا يبقى له خيرة.

وإنما قالوا ذلك بناء على أصلهم في وجوب إثابة المكلف، والمحمول على الشيء لا يثاب عليه. قال القاضي عبد الجبار: (اعلم أن الغرض بالتكليف التعريض لمنازل الثواب، فكل معنى أخرج المكلف من أن يستحق بفعله المدح، لم يجز أن يتناوله التكليف) (٥).


(١) ((المحيط بالتكليف)) للقاضي عبد الجبار (٢١).
(٢) ((المختصر في أصول الدين)) (١/ ١٩٨).
(٣) ((المحيط بالتكليف)) (٢٢).
(٤) ((المسودة)) لآل تيمية (٨٤).
(٥) ((المغني)) (١١/ ٣٩٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>