للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الخاتمة]

وبعد، فتلك هي فرقة "المعتزلة" في ماضيها وحاضرها، في أفكارها ومعتقداتها، في مبادئها وآرائها ومناهجها. وإن كان لنا أن ندعو الشباب إلى الحذر من تلك السموم وإلى توخي الحرص عند الاستماع لأي دعوى من دعاوى العقلانية أو التجديد أو عدم التعصب أو الحرية – وإن تدثرت برداء الإسلام خداعا لأهله – فإننا ننبه إلى أنه في تلك الدعوات خيبة الدنيا وخسرانها قبل الآخرة وعذابها، ذلك أن منهج الكلام ومباحث الاعتزال هي في حقيقة أمرها مباحث نظرية بعيدة كل البعد عن الناحية التطبيقية العملية، والإسلام إنما يدعو البشر إلى الاعتقاد السهل البسيط بوحدانية الله تعالى، واتخاذه – سبحانه – إلها يعبد في كافة مناحي الحياة ثم يفتح الباب على مصراعيه للاجتهاد في استغلال ما في الأرض جميعا والسير في مناكبها والنظر في آيات الآفاق والأنفس، ليرتفع في مدارج الرقي والقوة والإنتاج فيسود العالم كله ويستعلي عليه استعلاء القوة كما استعلى عليه استعلاء الإيمان، فلا يذهب بقوته في الصراع والتناحر حول معان نظرية مجردة لا عمل تحتها – كالعرض والجوهر وما إلى ذلك – ولا فائدة من ورائها. والحقيقة أن دعاة تلك المذاهب إنما يدفعون المسلمين إلى الاستغراق في النظريات المجردة فتبعد بهم عن مجالات العمل والتطبيق وتظل قواهم مبعثرة وأراضيهم مستعمرة وشرعهم معطلا.

إن كبار العلماء في الغرب قد أدركوا – منذ زمن – أن لعبة المباحث النظرية لا تؤدي إلا إلى الضعف، وأن دعاوى الحرية والتقدم بناء على تلك النظريات إنما هي شرك يكفل تردي البشرية - لصالح فئة منها - في مهاوي التخلف والتناحر مادامت الحياة، وهو ما هدانا إليه رب العالمين حين أنزل المنهج الأمثل على سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه، وحين تلقفه منه صحابته رضوان الله عليهم فانطلقوا به "عاملين" في مشارق الأرض ومغاربها فبنوا أكبر دولة على مر التاريخ في أقصر فترة زمنية! وإننا لنتساءل – ونسأل أولئك الدعاة لمنهج الاعتزال – أين هي الدولة التي قامت على مثل تلك الفروض والمباحث الكلامية النظرية؟! وإنما كان نصيب الدولة الإسلامية التفتت والمحنة يوم أن تبنت السلطة تلك النظريات في عهد المأمون العباسي. ولله در الإمام مالك حين عبر عن روح الإسلام في كلمته الجديرة بالتخليد: "أكره الكلام فيما ليس تحته عمل" (١). وقوله: "أكلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما نزل به جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم " (٢) وقوله: "وأكره أن ينسب أحد حتى يبلغ آدم ولا إلى إبراهيم" (٣).


(١) ((سير أعلام النبلاء)) (٨/ ٨٨)، و ((مذاهب الإسلاميين)) لبدوي (١/ ٣٠).
(٢) ((الجامع)) أبو زيد القيرواني (٢٥٩).
(٣) ((سير أعلام النبلاء)) (١٦/ ١٠٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>