للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المبحث الثالث: حركات الخوارج الثورية على الدولة العباسية]

رأينا سابقا كيف أن الخوارج منذ أن فارقوا علي بن أي طالب رضي الله عنه أخذوا في تضخيم السخط على مخالفيهم والحث الشديد على محاربتهم وتضخيم خطاياهم، في كل مسألة ينادون بأعلى أصواتهم لا حكم إلا لله لا لعلي ولا لبني أمية ولا لبني العباس ولا لأحد، الحرب، الحرب، لهذا فقلما يجتمع منهم جماعة إلا وسارعوا وأعلنوها حربا شعواء لا يمكن أن تنتهي إلا بمنتصر ومهزوم.

فقد خاضوا مع بني أمية كما تقدم حربا لا هوادة فيها كلفوا أنفسهم خسائر ضخمة، وكلفوا الخلافة من الأنفس والأموال ما لو أنفق في جهاد الكفار لكان مفخرة إسلامية. استمر الخوارج طوال عهد الدولة الأموية وهم في صراع حاد معها فأوهنوا قوتها وأوهنت قوتهم، وكانوا كالشجا في حلق كل خليفة لا يخف ألمه إلا ليبدأ من جديد، وهكذا إلى أن غير الله الحال وانتهت الدولة الأموية برأسها وخلفتها الدولة العباسية ولا زال مرجل الخوارج يغلي ولكنه يغلي على بقية جمر كاد أن يصير رمادا واختلف خوارج اليوم عن خوارج الأمس، فالخوارج على بني أمية كانوا أكثر جمعا وأشد بأسا، أما الخوارج على بني العباس فكانوا كما وصفهم أحمد أمين بقوله: "كانوا الخوارج في حالة الاحتضار وحركاتهم التي أتوا بها في العهد العباسي تشبه حركة المذبوح" (١).

ومن هنا توالت عليهم الهزائم فلا يخرجون على خليفة إلا ورماهم بكل ما لديه من ثقل إلى أن أصبحوا في وضع لا يمكنهم فيه أن يلفتوا إليهم نظرا، فلا يخشى بأسهم ولا يحسب لقوتهم مثل ما كان لأسلافهم. يقول أحمد أمين في نتيجة هزائمهم: "وكانت هذه الهزائم المتوالية للخوارج سببا في ضعف أمرهم وقلة شأنهم؛ فلم يعد لهم من القوة والقتال أثر في التاريخ كبير" (٢).

ولنبدأ الآن بذكر أشهر الخارجين على الدولة العباسية، وأول الخارجين كان:

هو الجلندي الذي خرج على السفاح، ويسمى الجلندي بن مسعود بن جيفر الأزدي، فقد أراد هو وأصحابه من أهل عمان صد جيش الخلافة عن دخول بلادهم، وكان قائد جيش الخليفة أبي العباس السفاح، رجلا يسمى خازم بن خزيمة فالتقوا في الصحراء فاقتتلوا قتالا شديدا يوما كاملا، ثم استأنفوا القتال في اليوم الثاني في معركة لا تقل عن اليوم الأول، ثم هدأت الأمور قليلا ولكنهم استأنفوها على أشدها. وقد فكر جيش خازم في حيلة أشار بها عليهم رجل من أهل الصغد وهي أن يجعل كل جندي على طرف سنانة مشاقة، وهي ما خلص من القطن والكتان والشعر، ويرووها بالنفط ثم يشعلوا فيها النيران ثم يقذفوها على بيوت الجلندي وأصحابه، وتمت هذه الفكرة بنجاح فاشتعلت النار في البيوت وكانت من خشب فاشتغل أصحاب الجلندي بإخراج أهلهم وأموالهم عن النار، وعندها مال عليهم جيش خازم يقتلونهم كيف شاءوا وانتهت المعركة بقتل عشرة آلاف منهم، ثم أخذت رؤوسهم وبعث بها إلى البصرة فمكثت أياما ثم بعث بها إلى الكوفة إلى أبي العباس كما هي عادة أهل التجبر والقهر في من يقع تحت سطوتهم" (٣).

وخرج بعد ذلك ملبد بن حرملة الشيباني على المنصور بناحية الجزيرة بالعراق، وكان فيه شجاعة شبيب ودهائه وخبرته بالحرب وأنواعها.


(١) ([٨٢٩٩]) ((ضحى الإسلام)) (٣/ ٣٣٥).
(٢) ([٨٣٠٠]) ((ضحى الإسلام)) (٣/ ٣٣٥).
(٣) ([٨٣٠١]) انظر: ((تاريخ الطبري)) (٧/ ٤٦٣)، وانظر ((تاريخ ابن كثير)) (١٠/ ٥٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>