للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المبحث الثاني: مبالغتهم في العبادة والزهد]

اشتهر الخوارج بالمبالغة في العبادة فقد بلغوا فيها مبلغا عظيما، وكذلك كان لهم اشتغالهم الدائم بقراءة القرآن قد لا يدركه الكثير من غيرهم. يصفهم جندب الأزدي بقوله: " لما عدلنا إلى الخوارج ونحن مع علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، قال: فانتهينا إلى معسكرهم فإذا لهم دوي كدوي النحل من قراءة القرآن وإذا فيهم أصحاب البرانس – أي الذين كانوا معروفين بالزهد والعبادة- " (١).وقد وصف زعيم منهم وهو عبد الله بن وهب بأنه ذو الثفنات (٢) لشدة عبادته واجتهاده وكثرة سجوده، حتى أصبحت يداه كثفنات الإبل من كثرة وضعها على الأرض. وهذا أبو بلال مرداس كان من عبادهم وزهادهم مر بأعرابي وهو يداوي بعيره بالقطران فهرج البعير من شدة القطران، فوقف عليه أبو بلال فلما رآه غشي عليه، فقام الأعرابي يرقيه ظانا أن به مسا فلم أفاق قال له: قد رقيتك، قال له: ليس بي شيء مما خفته علي، وإنما ذكرت به قطران جهنم فأصابني ما رأيت (٣).بل لقد وصل الاجتهاد في العبادة ببعضهم إلى حد المغالاة والخروج عن الرفق بالنفس إلى الأمر المذموم، فقد طلب ابن زياد من مولى عروة بن حدير أن يصف له أمر عروة بعدما قتله قائلا له: صف لي أمره واصدق، فقال:: أأطنب أم اختصر؟ فقال: بل اختصر، قال: ما أتيته بطعام في نهار قط، ولا فرشت له فراشا بليل قط. قال الشهرستاني بعد أن ذكر هذه الحادثة: " هذه معاملته واجتهاده وذلك خبثه واعتقاده " (٤)، وقد ذكر ابن أبي الحديد في ترجمته المختصرة له أنه كان له أصحاب وأتباع وشيعة (٥).وحتى نافع بن الأزرق وهو المشهور بسفك الدماء يكتب إلى أهل البصرة ويذم في كتابه الدنيا ويصفها بأنها غرارة مكارة ينبغي الحذر منها ومن الركون إليها، في كلام عذب أخاذ عليه فصاحة العرب وقوة حجتهم، فمنه قوله: " فلا تغتروا ولا تطمئنوا إلى الدنيا فإنها غرارة مكارة لذتها نافذة ونعمتها بائدة، حفت بالشهوات اغترارا وأظهرت حبره وأضمرت عبره، فليس آكل منها أكلة تسره ولا شارب شربة تؤنقه إلا دنا بها درجة إلى أجله وتباعد بها مسافة من أمله، وإنما جعلها الله دارا لمن تزود منها إلى النعيم المقيم والعيش السليم، فلن يرضى بها حازم دارا ولا حليم بها قرارا، فاتقوا الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى " (٦).


(١) ((تلبيس إبليس)) (ص٩٣)، ((فتح الباري)) (١٢/ ٢٩٦).
(٢) ((الكامل)) للمبرد (٢/ ١٥٥).
(٣) ((الملل والنحل)) (١/ ١١٨).
(٤) ((الملل والنحل)) (١/ ١١٨).
(٥) ((شرح نهج البلاغة)) (٤/ ١٣٢).
(٦) ((الكامل)) للمبرد (٢/ ١٧٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>