للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المبحث الأول: الحوار والمناقشة وإزالة الشبه]

لقد حاور الصحابة رضي الله عنهم الخوارج، وحاولوا من خلال هذا الحوار مناقشة الأمور التي خالفت فيها الخوارج وكانت سبب خروجهم، وحاولوا إزالة الشبه التي عرضتها الخوارج وجعلتها مبررا ومسوغا لخروجهم. وكان هذا الحوار وتلك المناقشة أكثر من مرة، وفي أكثر من موضع ومن أكثر من شخص، وكان الحوار ناجحا إذ من خلاله زالت شبه جماعة من الخوارج، وعادوا إلى الحق، وانضموا إلى الجماعة. يروي الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله أن عبد الله بن شداد (١) جاء إلى عائشة رضي الله عنها فقالت: "يا عبدالله بن شداد هل أنت صادقي عما أسألك عنه؟ فحدثني عن هؤلاء القوم الذين قتلهم علي، فقال: ومالي لا أصدقك؟ قالت: فحدثني عن قصتهم، قال: فإن عليا لما كاتب معاوية وحكم الحكمين؛ خرج عليه ثمانية آلاف من قراء الناس، فنزلوا بأرض يقال لها حروراء من جانب الكوفة، وأنهم عتبوا عليه فقالوا: انسلخت من قميص ألبسكه الله، واسم سماك به الله، ثم انطلقت فحكمت في دين الله ولا حكم إلا لله، فلما أن بلغ على ما عتبوا عليه وفارقوه عليه، أمر فأذن مؤذن لا يدخل على أمير المؤمنين رجل إلا رجلا قد حمل القرآن، فلما أن امتلأت الدار من قراء الناس؛ دعا بمصحف إمام عظيم فوضعه بين يديه فجعل يصكه بيده ويقول: أيها المصحف! حدث الناس. فناداه الناس فقالوا: يا أمير المؤمنين ما تسأل عنه إنما هو مداد في ورق، ونحن نتكلم بما روينا منه، فماذا تريد؟ قال: أصحابكم هؤلاء الذين خرجوا؛ بيني وبينهم كتاب الله، يقول الله تعالى: في كتابه في امرأة من رجل وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا [النساء: ٣٥]. فأمة محمد صلى الله عليه وسلم أعظم دما وحرمة من امرأة ورجل، ونقموا علي أن كاتبت معاوية كتبت: علي بن أبي طالب، وقد جاءنا سهيل بن عمرو ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية حين صالح قومه قريشا .. (٢).

وأكمل القصة ثم إنه بعث إليهم عبدالله بن عباس ليناظرهم. وقيل إن عليا رضي الله عنه ذهب إليهم وناظرهم فيما نقموا عليه حتى رجعوا ودخلوا معه الكوفه، ثم إنهم عاهدوا فنكثوا ما عاهدوا عليه (٣).

ونلحظ أن عليا رضي الله عنه أراد في جمع قراء الناس أن يلزم الخوارج الحجة، وأن يبين للناس أن إدعاء الخوارج على علي رضي الله عنه أنه حكم الرجال لا أساس له من الصحة، فأراد إيضاح حقيقة ما حصل من قبول التحكيم، وأنه عين ما يريدون من تحكيم كتاب الله عز وجل، وأنه رضي الله عنه ما خرج عن حكم الكتاب العزيز، ولكن عقول هؤلاء الخوارج قاصرة عن إدراك حقيقة الأمر، ونظرهم محدود، قد غطت الشبهات أعينهم فما عادوا يبصرون إلا من خلالها.

ولقد جاء رضي الله عنه بالحجة المقنعة فجاء بالمصحف فوضعه بين يديه وجعل يصكه بيده ويقول: أيها المصحف حدث الناس!


(١) عبدالله بن شداد بن الهاد الليثي أبو الوليد، المدني، من كبار التابعين الثقات، وكان معدودا في الفقهاء، مات بالكوفة مقتولا سنة ٨١هـ وقيل بعدها. انظر ((التقريب)) (١/ ٤٢٢).
(٢) رواه عبد الله بن أحمد في ((زوائد المسند)) (١/ ٨٦) (٦٥٦). قال ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (٧/ ٢٩١): إسناده صحيح. وحسنه الوادعي في ((الصحيح من دلائل النبوة)) (٦٠١). وقال شعيب الأرناؤوط محقق ((المسند)): إسناده حسن.
(٣) انظر ((البداية والنهاية)) (٧/ ٢٨١).

<<  <  ج: ص:  >  >>