للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المبحث الرابع: المذاهبُ الهنْديّة وَالفَارسيَّة:

وأما كون التصوف وتعاليمه وفلسفته، أوراده وأذكاره، وطرق الوصول إلى المعرفة، والمؤدية إلى الفناء، مأخوذة مستقاة من المذاهب الهندية والمانوية، والزرادشتية أيضا فلا ينكرها منكر، ولا يردها أحد، ولا يشك فيها شاك، بل إن كبار الكتاب عن التصوف والباحثين فيه من المستشرقين والمسلمين، وحتى الصوفية أقروا بذلك حيث لم يسعهم إلا الاعتراف بهذه الحقيقة الظاهرة الجلية التي لا يمكن تجاهلها ولا إغفالها البتة.

فإن الأستاذ أبا العلاء العفيفي كتب في ثنايا بحثه عن المشتغلين من المستشرقين في الدراسة عن التصوف:

(وأما ريتشورد هارتمان، وماركس هورتين فنزعتهما واحدة: وهي أن التصوف يستمد أصوله من الفكر الهندي، وإن كان هورتين قد بذل من المجهود في إثبات هذه النظرية ما لم يبذله أي كاتب آخر. فقد كتب في سنتي ١٩٢٧، ١٩٢٨ مقالتين حاول أن يثبت في إحداهما، بعد تحليل تصوف الحلاج والبسطامي والجنيد، أن التصوف الإسلامي في القرن الثالث الهجري كان مشبعا بالأفكار الهندية، وأن الأثر الهندي أظهر ما يكون في حالة الحلاج. وفي المقالة الثانية يؤيد النظرية نفسها عن طريق بحث المصطلحات الصوفية الفارسية بحثا فيلولوجيا، وينتهي إلى أن التصوف الإسلامي هو بعينه مذهب الفيدانتا الهندية.

ويستند هارتمان في إثبات نفس الدعوى إلى النظر في الصوفية أنفسهم وفي مراكز الثقافة القديمة التي كانت منتشرة في بلادهم، لا إلى المصطلحات الصوفية كما فعل هورتن. وقد نشر في مسألة أصل التصوف مقالا هاماً سنة ١٩١٦ في مجلة De Islam وخلاصة بحثه أن التصوف الإسلامي مدين للفلسفة الهندية التي وصلت إليه عن طريق مترا وماني من جهة، وللقبّالة اليهودية والرهبنة المسيحية والغنوصية والأفلاطونية الحديثة من جهة أخرى. وهو يرى أن الذي جمع هذه العناصر كلها ومزجها مزجا تاما في التصوف هو أبو القاسم الجنيد البغدادي (المتوفى سنة ٢٩٧ هـ)، فإليه يجب أن تتجه عناية الباحثين. أما حججه في تأييد الأصل الهندي فهي:

أولا: أن معظم أوائل الصوفية من أصل غير عربي كإبراهيم بن أدهم وشقيق البلخي وأبي يزيد البسطامي ويحيى بن معاذ الرازي.

ثانيا: أن التصوف ظهر أولا وأنتشر في خراسان.

ثالثا: أن تركستان كانت قبل الإسلام مركز تلاقي الديانات والثقافات الشرقية والغربية، فلما دخل أهلها في الإسلام صبغوه بصبغتهم الصوفية القديمة. وهذا كلام أشبه ما يكون بماذكره كل من ثولك وفون كريمر في هذا الموضوع.

رابعا: أن المسلمين أنفسهم يعترفون بوجود الأثر الهندي. خامسا: أن الزهد الإسلامي الأول هندي في نزعته وأساليبه. فالرضا فكرة هندية الأصل، واستعمال الزهاد للمخلاة في سياحتهم، واستعمالهم للسبح، عادتان هنديتان (١).

ثم علق الأستاذ عفيفي على كلام هورتمان بقوله:

(ولكن المسألة أعقد من ذلك بكثير، فقد تبين لي من البحث في تصوف مشايخ خراسان وتصوف مدرسة نيسابور خاصة، أنه وإن كانت له صبغة محلية إلى حد ما، متأثر بتيارات غير محلية وصلت إليه من مراكز التصوف الأخرى في العراق والشام، وأنه كانت لبعض الحركات غير الدينية – كحركة الفتوة التي كانت في بدء أمرها اجتماعية بحتة – شأن كبير في تشكيل بعض تعاليم هؤلاء الصوفية).

ثم إن الأستاذ عفيفي في مقاله هذا لم يذكر واحدا من المستشرقين الذين كتبوا عن التصوف إلا وقد ذكروا رأيا يشبه رأي هاتمان، وهورتن.


(١) مقدمة كتاب في ((التصوف الإسلامي وتاريخه)) (صح، ط

<<  <  ج: ص:  >  >>