للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المطلب الثاني: عند النصارى]

أعلنت الصوفية عن نفسها عند المسيحيين في القرن الثاني الميلادي باسم الغنوصية، أي: المعرفة، ومنها الغنوصي أي: العارف، وسماه العرب منهم الكاهن، وقد رفضتها الكنيسة أولاً، ومع الزمن قبلتها وتبنتها.

وهذا نص لصوفي مسيحي يصف كيفية وصوله إلى الجذبة. يقول (نيمو) (١) خادم أم الإله، متلقي اعترافات القديسة تيريزا (٢)، في كتابه (الأسفار):

... وجدت فائدة كبيرة في الدعوات الصوتية التي تسمى بالأذكار، خصوصاً في الكلمات (أبانا الذي ... ) مما يكرره الفم ساعات طويلة، و (ليتقدس اسمك)، و (وفي القلب رغبة في أن ينحصر هناك) .... كنت أجد في هذه الكلمة وحدها (الله) رضاً بالغاً لنفسي، بحيث لم أشأ ولم أستطع أن أنتقل عنها إلى أفكار أخرى، وكنت أقتصر على ذلك حتى أصل إلى البركة (٣) ...

رجل دين إسباني من أهل النصف الأول من القرن السادس عشر الميلادي.

ويعرف القارئ أن البركة تعني الجذبة، كما يظهر في هذا النص تأثر متصوفة المسيحيين بأسلوب الذكر الإرهاقي الذي استعمله متصوفة المسلمين قبل نيمو بحوالي ستة قرون.

وبسبب عوامل ما، تشعبت الصوفية عند المسيحيين إلى أكثر من مذهب، فالقديسة تيريزا الأفيلية، مثلاً، تؤمن أن الخالق غير المخلوق، وتصف وصولها أو (فتوحها) بأنه اتحاد بينها وبين الله (تعالى الله)، فتقول من قصيدة: ... واتحاد النفس بالله في القران الروحي شبيه بشمعتين تذوبان معاً حتى يصبح نوراهما نوراً واحداً (٤) ...

ومن قصيدة أخرى: ... هاأنذا يا عريسي الأكبر، دعني أقترب منك ... وليدخل هذا الجدول الصغير في خضمك، أغثني يا أعذب حليل ... ولتسترح نفسي بين ذراعي عريسها (٥) ...

حيث يظهر من أقوال القديسة هذه أن تجلياتها كانت جمالية لا جلالية، واتحادية لا وحدوية. بينما نرى القديس خوان دي لا كروث (٦) يؤمن بوحدة الوجود، فمن أقواله: ... حبيبي هو الجبال، والوديان المنعزلة المليئة بالأشجار، والجزر الغريبة، والأنهار الرنانة، وصفير الرياح الحبيبة، والليل الساكن (٧) ...

من النصوص المارة آنفاً، وكذلك من الفصول السابقة، ومن أية دراسة واعية لأية وثنية في التاريخ، يظهر واضحاً دور الإشراق فيها، بل إن الكاهن في كل الوثنيات لا يسمى كاهناً حتى يصل إلى الجذبة عن طريق الرياضة الصوفية، ويحصل على يده بعض الخوارق، وقد يكتفون بالمهلسات، أو يستعملونها كعامل مساعد، مع العلم أن بعض الوثنيات، كديانة الإينكا مثلاً، كانت كما يظهر تكتفي بالمهلسات، وبعضها كالديانة الهندوسية، كانت وما زالت تستعمل الطريقتين، المهلسات والرياضة الصوفية، وبعضها كان ولما يزل يكتفي بالرياضة الصوفية.

للتسلية:

يقول د. سيد حسين نصر: ... بل إن مقام (الخدمة) نفسه الذي يأتي متأخراً بعد مقام البقاء، لا يجوز أن يحمل على معنى العمل أو الفرض الديني بالمعنى المألوف؟ بل بمثابة خدمة أداها كائن تذوق (الوصال)، وهي في منزلتها تقابل العهد الذي قطعه أفالوكتسفارا على نفسه في الدين البوذي، بإنقاذ الخلائق، بعد أن تم له أن يخطو خطوة واحدة في (النيرفانا) (٨). اهـ.- النيرفانا هي المصطلح البوذي الذي يقابل مصطلح (الفناء في الله)، وقد عربها بعض المتصوفة في إيران أو (أسلمها)، فصارت (نيروان) (٩)، واستعملوها بنفس المعنى. وبقراءة النصوص المترجمة إلى العربية، نجد أن كلمة (النيرفانا) ترد أحياناً بمعنى (المطلق)، وأحياناً بمعنى: (الفناء في المطلق)، وهو الأكثر تواتراً.

- ويجب ألا ننسى ملحوظة هامة، وهي أن الحقيقة الصوفية، (أي: الجذبة ورؤاها)، والطريق إليها (أي: الرياضة الصوفية)، هي واحدة في كل زمان ومكان، ويكون الاختلاف في أشكال الهالات التي تحاط بها، والتفاسير التي تشرح بها رؤاها وأساليب الدعاية التي يقدمونها لها، كما أن للخلفية الاجتماعية المحيطة بالواصل دور شامل في الأطروحات التي تقدمها كشوفه.

المصدر:الكشف عن حقيقة الصوفية لمحمود عبد الرؤوف القاسم - ص ٧٦٩ - ٧٧١


(١) رجل دين إسباني من أهل النصف الأول من القرن السادس عشر الميلادي.
(٢) تيريزا الأفيلية من قرية آفيلا الإسبانية، ماتت سنة (١٥٨٢م).
(٣) ابن عربي، لآسين بلاثيوس، (ص:١٨٦) في الحاشية.
(٤) ((يسوع المسيح شخصيته وتعاليمه)) (ص:٢١٢).
(٥) ((عمر بن الفارض من خلال شعره)) (ص:٧٧).
(٦) إسباني متصوف من أهل القرن السادس عشر الميلادي.
(٧) ((مجلة العربي))، (عدد: ٣٠٥)، (ص:٤٠).
(٨) ((الصوفية بين الأمس واليوم))، (ص:٦٧).
(٩) من ((الفكر الصوفي الإيراني المعاصر))، الفصل الأخير.

<<  <  ج: ص:  >  >>