للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المطلب الخامس: الحقيقة والمجاز]

يشبه هجوم شيخ الإسلام على "المجاز" هجومه على المنطق اليوناني، من حيث الدوافع والأسباب وقوة الهجوم، ثم الأثر الذي ترتب عليه، خاصة أثره فيمن جاء بعده من الموافقين والمخالفين. وإذا كان أي باحث في المنطق والفلسفة – المسماة بالإسلامية – لا يمكن أن يغفل أثر ما كتبه شيخ الإسلام في ذلك دفاعا عن مذهب السلف، فكذلك أي باحث في باب المجاز وما يتعلق به لا يمكنه إلا أن يشير على مذهب شيخ الإسلام وموقفه منه. وقد أشار إلى هذا أحد الباحثين، ممن أفرد للمجاز كتابا مطولا، بلغ جزأين كبيرين – فقال في مقدمة كتابه بعد عرض مختصر لتاريخ القول بالمجاز بين مثبتيه ونفاته: "والمتابع لسير النزاع بين الفريقين يرى أن الخلاف بينهما كان هادئا طوال القرون الأولى، حتى النصف الثاني من القرن السابع، والربع الأول من القرن الثامن، فقد اتجه الخلاف إلى الشدة والعنف – ولكن من جانب منكريه وحدهم، دون مجوزيه – فقد برز على الساحة الإمام أبو العباس أحمد ابن عبدالحليم بن عبدالسلام ابن تيمية "٦٦١ - ٧٢٨هـ" وقد وهبه الله ذاكرة واعية، وقلبا ذكيا، ولسانا فصيحا، وقلما جريئا، وتبني مذهب السلف من حيث الجملة، وتصدي لأقاويل كثير من الفرق ولم يترك مجالات من مجالات الفكر الإسلامي إلا وكان له فيه قصب السبق، وكان مما أدلى فيه بدلوه موضوع المجاز، فاختار مذهب المنع ... ومن يقرأ كتابه: (الإيمان) يجد نفسه أمام صخرة عاتية، لا تعمل فيها المعاول إذا أريد النيل منها ... " (١).

وعلى الرغم من أن المؤلف رد على شيخ الإسلام واشتد في الرد أحيانا إلا أنه ذكر السبب الصحيح لموقف شيخ الإسلام من المجاز، فقال "إن الضرورات والظروف التي جعلت الإمام يقف تلك الوقفة من المجاز في كتابه (الإيمان)، وفي رسالته المدنية، هي في الواقع ظروف جد خطيرة ومن يقف على خطورتها يسوغ للشيخ الإمام وقوفه ضدها، والعمل بكل طاقة على دفعها وكف شرها، ولو أدى ذلك إنكار المجاز، إذ ليس هو عقيدة أو معلوما من الدين بالضرورة، وإنما هو مذهب قولي، وهو فن من فنون البيان لا يفسق منكره ولا يذم.

ومجمل ما يمكن تصوره هو كثرة التأويلات التي تعدى بها قائلوها على النصوص الشرعية، وتجاوزوا بها مرحلة المعقول المقبول، إلى المدخول المنحول، الذي يكاد يذهب بكل الحقائق التي جاء بها الإسلام وأقرها. فلم تكن المسألة مسألة تأويل مجازي، وإلا لهان الخطب، وإنما طم شرها وعم، وأغرب قائلوها كل الأغراب، حتى صارت بعض الألفاظ ليس لها مدلول محقق في خضم تلك التأويلات العمياء. ومنشأ تلك التأويلات هو الفرق الكلامية والاعتقادية، والفلاسفة، وغلاة الصوفية، وقد وقف الإمام – رحمه الله – من تحريفات الفرق والمتكلمين وقفات جادة وطويلة وشاقة ... " (٢).

ولا شك أن شيخ الإسلام ما كان ليعترض على المجاز أو غيره من العلوم الحادثة لو أنها بقيت مثل كثير من العلوم والفنون التي أفردت بمؤلفات خاصة بها – وصار لأصحاب كل فن اصطلاح خاص بهم – ولكن لما أخذ المعتزلة وغيرهم – ومن عني منهم باللغة وفنونها – يبتدعون هذا المصطلح ليتوصلوا به إلى تصحيح عقائدهم الفاسدة، ودعمها بما يدعونه من الأدلة، بناء على مصطلح المجاز أو غيره، كان لابد من الوقوف أما هذه المصطلحات وبيان فسادها أصلا وفرعا. وهذا ما فعله شيخ الإسلام بالنسبة لطاغوت المجاز.


(١) ((المجاز في اللغة والقرآن الكريم)) – المطعمني (١/ح – ط).
(٢) ((المجاز في اللغة والقرآن الكريم)) (٢/ ٨٩٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>