للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المطلب الأول: معنى المتشابه، وهل الصفات أو بعضها منه؟]

مما يلاحظ أن أهل الكلام - وفيهم الأشاعرة - مع اهتمامهم بالعقل وأدلته، وتقديمها على أدلة السمع عند التعارض، إلا أنهم يحاولون أن يجدوا لبعض أصولهم العقلية ومنطلقاتهم الكلامية، أدلة من السمع، وقد سبق ذكر مثالين على ذلك:

أحدهما: استدلالهم على دليل حدوث الأجسام - الذي كان سببا في كثير من ضلالات المتكلمين في الصفات - استدلالهم عليه بقصة الخليل وقوله: فَل لا أُحِبُّ الآفِلِينَ [الأنعام: ٧٦]-

والثاني: احتجاجهم على نفي العلو وبعض الصفات بنفي التجسيم، وقد استدلوا على نفيه بقوله تعالى في قصة موسى وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ [الأعراف: ١٤٨].

وفي هذه المسألة يرد مثال ثالث على هذا المنهج الذي أرادوا أن يدعموا به مذهبهم في نفي الصفات أو بعضها؛ وذلك أنهم كثيرا ما يحتجون على تأويلهم للصفات، أو تفويضهم لها بأنها من المتشابه، ويستدلون على ذلك بالآية المشهورة من سورة آل عمران، وهي قوله تعالى: هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ [آل عمران: ٧]، ويبنون احتجاجهم بها على أن الصفات من المتشابه، ويقررون ذلك بأمرين:

إما بالاستدلال بها على أن مذهب السلف هو التفويض الكامل، الشامل للمعنى وللكيفية، وذلك عند ردهم على من يثبت الصفات ويحتج بما تواتر من إثبات السلف - رحمهم الله - لها. فيحتجون بهذه الآية على قراءة الوقف على "إلا الله". وهذا التفويض الذي جعلوه مذهبا للسلف يقصدون منه أنهم - أي السلف - جعلوا هذه الصفات من المتشابه، وأثبتوها ألفاظا مجردة لا تدل على معان ولا يفهم منها شيء. وهدفهم النهائي من ذلك أن يجعلوا تأويلهم للصفات وصرفها عن ظواهرها اللائقة بالله، موافقا ضمنا لما يدعونه من تفويض السلف، إذ على كلا الحالتين لا تدل النصوص على الصفات اللائقة بجلال الله وعظمته.

وإما - وهذا هو الأمر الثاني - أن يستدلوا بالآية على جواز التأويل - الذي هو عند المتأخرين صرف اللفظ من الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح - ويقولون: إن الراسخين في العلم يعلمون تأويل المتشابهات - ومنها على زعمهم الصفات - وهذا على قراءة مجاهد وغيره بعطف "والراسخون في العلم" على ما قبله. والمحكم والمتشابه من مباحث علوم القرآن المشهورة، وقد تعددت الأقوال في تحديد المقصود بالمحكم والمتشابه المذكورين في آية آل عمران (١).

أما الإحكام العام الذي دل مثل قوله تعالى: الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ [هود: ١]، والتشابه العام الذي دل عليه مثل قوله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ [الزمر: ٢٣] وغيرها. فهو شامل لجميع القرآن، لأن القرآن كله محكم، ويشبه بعضه بعضا في ذلك. وهذان المعنيان لم يخالف فيهما أحد.


(١) انظر: ((البرهان)) (٢/ ٦٨) و ((الإتقان)) (٣/ ٣ - ٥)، و ((مناهل العرفان)) (٢/ ١٦٨ - ١٧١)، و ((اللآلي الحسان في علوم القرآن)) تأليف موسى لاشين (ص: ١٥٧ - ١٥٨)، و ((تفسير سورة الإخلاص - مجموع الفتاوى)) (١٧/ ٤١٨ - ٤٢٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>