للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المطلب الرابع: أدلة نفاة الحسن والقبح العقليين والجواب عنها]

استدل الأشاعرة على نفي الحسن والقبح العقليين بالتالي:

الدليل الأول: أن العبد مجبور على فعله، وإذا كان كذلك فلا يتصور الحسن والقبح العقليان حينئذ في فعله، لأن ما ليس بفعل اختياري لا يكون حسنا ولا قبيحا عقلا بالاتفاق من النفاة والمثبتين للحسن والقبح العقليين.

أما بيان كونه غير اختياري:

فلأنه إن لم يتمكن من الترك فذاك هو الجبر.

وإن تمكن من الفعل والترك كان الفعل جائزا.

وحينئذ إما أن يفتقر ترجيح الفعل على الترك إلى مرجح أولا؛ فإن لم يفتقر كان اتفاقيا فلا يوصف بالحسن والقبح، وإن افتقر إلى مرجح فذلك المرجح إن كان من العبد، احتاج ذلك المرجح آخر فيلزم التسلسل وهو محال. وإن كان المرجح من غير العبد، كان اضطراريا. وعلى التقارير كلها – أي امتناع الترك وكون الفعل اتفاقيا أو اضطراريا – لا يكون العبد مختارا في فعله، بل مجبور، فلا يتصف شيء من أفعاله بالحسن والقبح العقليين (١).

وقد أجيب عن هذا الدليل: بأن فيه التسوية بين الحركة الضرورية والاختيارية من العبد وعدم التفريق بينهما، وهذا باطل، لأنه مخالف لما يقضي به الواقع والحس والشرع. فهذا الدليل في مقابلة ما تقضي به الضرورة فلا يلتفت إليه.

ثم إنه لو صح الدليل المذكور لزم منه أن يكون الله تعالى غير مختار في فعله، لأن التقسيم المذكور في هذا الدليل جاز في أفعاله تعالى. وهذا كاف لبطلان هذا الدليل.

كما أنه يلزم من هذا الدليل بطلان الحسن والقبح الشرعيين، وذلك لأن فعل العبد ضروري، أو اتفاقي، وما كان كذلك فإن الشرع لا يحسنه ولا يقبحه لأنه لا يرد بالتكليف به فضلا عن أن يجعله متعلق الحسن والقبح.

ثم إنه إذا كان المرجح من الله تعالى لم يلزم من ذلك أن يكون الفعل اضطراريا؛ فإن الله يحبب للعبد الفعل، فيفعله باختياره، كما قال تعالى: وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: ٧].

كذلك إذا زين للعاصي عصيانه، فإن معصية العبد باختياره، فالتحبيب للطاعة والتزيين للمعاصي لم يسلبا العبد اختياره حتى يكون فعله اضطراريا. وإذا كان فعل العبد اضطراريا فإنه يلزم من ذلك بطلان الشرائع والتكاليف؛ لأن التكليف إنما يكون بالأفعال الاختيارية، إذ يستحيل أن يكلف المرتعش بحركة يده (٢).

الدليل الثاني:

لو كان قبح الكذب بالذات أو لصفة لازمة للذات لكان كلما وجد الكذب وجد القبح؛ لأن ما بالذات وما هو بواسطة أمر لازم للذات يجب أن يكون مادامت الذات واللازم باطلاً."فإن الكذب قد يحسن في بعض الأحيان كما إذا كان يترتب عليه عصمة دم نبي من ظالم، فالكذب حينئذ حسن بل واجب؛ لأنه رد للظلم بحيث لو تركه كان تركه قبيحا، وكذلك يحسن الكذب بل يجب إذا كان فيه إنجاء متوعد بالقتل ظلماً" (٣).

وقد أجيب من هذا الدليل: بأن الكذب قبيح في جميع صوره، وأما الذي يحسن فالتعريض والتورية. ومن ثمت قيل: إن في المعارض لمندوحة عن الكذب، فالكذب ليس متعينا لردع الظالم، وإذا لم يتعين كان الإتيان به قبيحا لا حسنا.


(١) الجرجاني، ((شرح المواقف)) (٨/ ١٨٥، ١٨٦). و ((شرح المقاصد للتفتازاني)) (٢/ ١٤٩).
(٢) ابن القيم، ((مفتاح دار السعادة))، (٢/ ٢٥).
(٣) الجرجاني، ((شرح المواقف)) (٨/ ١٩٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>