للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المبحث الحادي عشر: اتباع الهوى لقد أمرنا الله عز وجل بوجوب طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، ووصانا سبحانه بلزوم الصراط المستقيم واتباعه، وبين سبحانه أن من خرج عن الصراط المستقيم لما تهواه نفسه فهو تائه ضال بذلك (١). قال تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام: ١٥٣].إنهما أمران لا ثالث لهما: إما أن يكون المرء متبعا للحق، أو يكون متبعا للهوى، يقول الإمام الشاطبي في معرض ذمه للبدع: " أنه اتباع للهوى لأن العقل إذا لم يكن متبعا للشرع لم يبق له إلا الهوى والشهوة، وأنت تعلم ما في اتباع الهوى وأنه ضلال مبين، ألا ترى قول الله تعالى: يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ [ص: ٢٦]، فحصر الحكم في أمرين لا ثالث لهما عنده، وهو الحق والهوى، وعزل العقل مجردا إذ لا يمكن في العادة إلا ذلك (٢).وبين في موضع آخر أن اتباع الهوى من أسباب الاختلاف ووقوع الفرقة في الأمة فقال: " من أسباب الخلاف: اتباع الهوى، ولذلك سمي أهل البدع " أهل الأهواء " لأنهم اتبعوا أهواءهم، فلم يأخذوا الأدلة الشرعية مأخذ الافتقار إليها، والتعويل عليها حتى يصدروا عنها، بل قدموا أهواءهم، واعتمدوا على آرائهم، ثم جعلوا الأدلة الشرعية منظورا فيها من وراء ذلك (٣).

والدليل على ذلك أنك لا تجد مبتدعا ممن ينسب إلى الملة إلا وهو يستشهد على بدعته بدليل شرعي فينزله على ما وافق عقله وشهوته، وهو أمر ثابت في الحكمة الأزلية التي لا مرد لها، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ [البقرة: ٢٦]. وإذا دخل الهوى أدى إلى اتباع المتشابه حرصا على الغلبة والظهور بإقامته العذر في الخلاف، وإنما أدى إلى الفرقة والتقاطع والعداوة والبغضاء، لاختلاف الأهواء وعدم اتفاقها، وإنما جاء الشرع بحسم مادة الهوى بإطلاق (٤)، لذلك لم يأت في القرآن ذكر الهوى إلا في معرض الذم (٥).

ولقد جاء الأمر صريحا لمحمد صلى الله عليه وسلم باتباع الشرع الحنيف، والنهي عن اتباع الهوى فقال سبحانه: ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [الجاثية: ١٨].

والشريعة التي جعله عليها تتضمن ما أمر به، وكل حب وذوق ووجد لا تشهد له هذه الشريعة، فهو من أهواء الذين لا يعلمون، فإن العلم بما يحبه الله إنما هو ما أنزله الله على عباده من هداه.


(١) انظر منهاج السنة النبوية لابن تيمية (١/ ١٩).
(٢) ((الاعتصام)) (ص ٣٥).
(٣) ((الاعتصام)) (ص ٤٤٧).
(٤) انظر ((الموافقات)) للشاطبي (٤/ ٥٧٦)، وانظر منه (٤/ ٥٣٦).
(٥) انظر ((الاعتصام)) (ص ٤٥٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>