للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ما نهى الله عنه" (١). كان جهادُ النفس مُقَدَّماً على جهاد العدوِّ في الخارج، وأصلاً له، فإنَّه ما لم يجاهِد نفسه أوّلاً لتَفْعلَ ما أُمِرَتْ به، وتتركَ ما نُهِيَتْ عنه، ويُحارِبْها في الله، لم يُمْكِنْهُ جهادُ عدوِّه في الخارج. فكيف يمكنُه جهاد عدوِّه والانتصاف منه، وعدوُّه الذي بين جنبيه قاهرٌ له، متسلِّطٌ عليه، لم يُجاهده، ولم يحاربه في الله، بل لا يمكنه الخروج إلى عدوّه؛ حتى يجاهِدَ نفسه على الخروج.

فهذان عدوَّان قد امْتُحِن العبد بجهادهما، وبينهما عدوٌّ ثالث لا يمكنه جهادُهما إلاَّ بجهاده، وهو واقف بينهما يُثبِّط العبدَ عن جهادهما، ويُخذِّلُه ويُرجِفُ به، ولا يزالُ يُخَيِّلُ له ما في جهادهما من المشاقِّ وترْك الحظوظ وفَوْتِ اللذاتِ والمشتهيات ولا يُمكنه أن يجاهِدَ ذَيْنكَ العدوَّيْن إلاَّ بجهاده، فكان جهادُه هو الأصلَ لجهادهما، وهو الشيطان. قال -تعالى-: {إن الشيطان لكم عدوٌّ فاتخِذُوُه عَدُوّاً} (٢).

والأمر باتخاذه عدوّاً تنبيهٌ على استفراغ الوُسع في محاربته ومجاهدته، كأنَّه عدوٌّ لا يَفْتُر ولا يُقصِّر عن محاربة العبد على عدد الأنفاس.

فهذه ثلاثة أعداء أُمِرَ العبد بمحاربتها وجهادها، وقد بُلي بمحاربتها في هذه

الدار، وسلَّطتْ عليه امتحاناً من الله له وابتلاءً، فأعطى الله العبدَ مَدَداً وعُدَّةً

وأعواناً وسلاحاً لهذا الجهاد، وأعطى أعداءه مَدَداً وعُدَّةً وأعواناً وسلاحاً، وبَلاَ أحدَ الفريقين بالآخر وجعل بعضَهم لبعض فتنةَ لِيَبْلُوَ أخبارهم، ويمتحن من يتولَّاه ويتولَّى رسُلَه، ممن يتولّى الشيطان وحزبه، كما قال -تعالى-: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ


(١) أخرجه أحمد وغيره، وانظر "الصحيحة" (٥٤٩).
(٢) فاطر: ٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>