للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

لنفسِه ولا بنفسه، ويُجاهدَ شيطانه بتكذيبِ وعده، ومعصيةِ أمرهِ، وارتكابِ نهيه، فإنه يَعِدُ الأمانيِّ، ويمنِّي الغرور، ويعِدُ الفقرَ، ويأمرُ بالفحشاء، وينهى عن التُّقى والهُدى والعفةِ والصبرِ، وأخلاقِ الإيمان كلِّها، فجاهده بتكذيب وعْدِه، ومعصية أمره، فينشأ له من هذين الجهادين قوةٌ وسلطانٌ، وعُدَّةٌ يجاهد بها أعداء الله في الخارج؛ بقلبه ولسانه ويده ومالهِ، لتكونَ كلمةُ اللهِ هي العليا.

واختلفَت عبارات السلف في حقِّ الجهاد:

فقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: هو استفراغ الطاقة فيه، وألاَّ يخافَ في الله لومةَ لائم. وقال مُقاتل: اعملوا لله حقَّ عمَلِه، واعبدُوه حقَّ عبادته. وقال عبد الله بن المبارك: هو مجاهدةُ النفس والهوى.

ولم يُصِبْ مَن قال: إنَّ الآيتين منسوختان؛ لظنِّه أنّهما تضمَّنَتا الأمر بما لا يُطاق، وحقّ تقاته وحقّ جهاده: هو ما يُطيقه كلُّ عبد في نفسه، وذلك يختلف باختلافِ أحوال المكلفين في القدرة، والعجز، والعلم والجهل. فحقُّ التقوى وحقُّ الجهاد بالنسبة إلى القادر المتمكن العالم شيءٌ، وبالنسبة إلى العاجز الجاهل الضعيف شيءٌ.

وتأمَّل كيف عقَّب الأمرَ بذلك بقوله: {هُوَ اجتباكم وَمَا جَعَلَ عليكم في الدين مِنْ حَرَجٍ} (١)، والحَرَج: الضِّيقُ، بل جَعَلَه واسعاً يَسَعُ كلَّ أحدٍ، كما جَعل رزقه يَسَعُ كلَّ حي، وكلَّف العبد بما يسَعه العبدُ، ورَزَق العبدَ ما يسَعُ العبد، فهو يسَعُ تكليفَه وَيَسَعُهُ رزقُهُ، وما جعَل على عبده في الدين مِن حَرَجٍ بوجه ما.

وقد وسَّع الله -سبحانه وتعالى- على عباده غايةَ التَّوسِعة في دينه، ورِزْقِه،


(١) الحج: ٧٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>