للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

صدري بخفقان عنيف. فلما عجزت عن السير لصعوبة التنفس ارتميت على شجرة على الطريق وقضيت نصف ساعة في حال من الانفعال الشديد حتى أنني حين قمت وجدت مقدمة صدريتي كلها مبللة بالدموع .. أوه، لو أتيح لي أن أكتب ولو ربع ما رأيت وأحسست تحت تلك الشجرة، فبأي وضوح كنت أميط اللثام عن كل تناقضات نظامنا الاجتماعي! بأي بساطة كنت أبين أن الإنسان بفطرته خير، وأن نظمنا هي التي جعلته شريراً (٦٢) ".

وهذه العبارة الأخيرة ستكون نشيد حياته المتردد، وتلك الدموع التي تدفقت على صدريته كانت منبعاً من المنابع العليا التي انبثقت منها الحركة الرومانسية في فرنسا وألمانيا. لقد كان في وسعه الآن أن يكسب قلبه في هجوم على كل تكلف باريس وتصنعها، وفساد أخلاقها، وزيف سلوكها المصقول، وإباحية أدبها، وشهوانية فنها، وتعالي طبقيتها، وسفه أغنيائها الغليظ الذي تموله إبتزازاتهم من الفقراء، وجفاف الروح لحلول العلم محل الدين، والمنطق محل الوجدان. إنه بإعلانه الحرب على هذا الانحلال يستطيع أن يبرر بساطة ثقافته، وعاداته الريفية، وقلقه وضيقه في المجتمع، ونفوره من حيث القيل والقال، ومن الفكاهة التي تجردت من الاحترام، ويبرر احتفاظه المتحدي بإيمانه الديني وسط إلحاد أصحابه. لقد عاد في أعماق نفسه كلفنياً كما كان، وذكر بشيء من الحنين تلك العفة التي لقنها في صباه. إنه بدخوله مسابقة ديجون سيرفع وطنه جنيف فوق باريس، وسيشرح لنفسه ولغيره لم كان سعيداً في ليشارميت، وشقياً غاية الشقاء في صالونات باريس.

فلما وصل إلى فانسين كاشف ديدرو منيته في دخول المسابقة. فهلل ديدرو للفكرة، وأشار عليه بأن يهاجم حضارة جيلهما بكل ما في وسعه من قوة. فلن يجرؤ متسابق آخر على اتخاذ هذا الموقف، وسيكون موقف روسو فريداً في بابه (١) عاد جان-جاك إلى مسكنه وهو يتحرق شوقاً


(١) هناك جدل صغير يبهم القصة في هذه النقطة. فقد روى ديدرو في ١٧٨١ زيارة روسو له بطريقة يمكن التوفيق بينها وبين رواية روسو. قال: حين جاءني روسو يستشيرني في الموقف الذي ينبغي أن يتخذه قلت له: أن موقفك هو الذي سيرفضه الآخرون، فقال إنك على حق (٦٣) "وحوالي عام ١٧٩٣ روى مارمونتيل عن ديدرو إنه ثنى روسو عن اتخاذ موقف الموافقة، فقال له روسو سأعمل بنصيحتك (٦٤) ".