للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تلك إذن هي البيئة التي كانت تحيط ببلاد اليونان: حضارات كحضارة مصر وكريت وبلاد النهرين أهدت إليها العناصر الفنية في الصناعة، والعلوم، والفن، فاستحالت على أيدي اليونان إلى أزهى صورة في التاريخ؛ وإمبراطوريات كبلاد فارس وقرطاجنة تؤثر فيها منافسة التجارة اليونانية، وينضم بعضها إلى بعض لمحاربة اليونان وجعلها ولاية خاضعة لسلطانها غير قادرة على أذاها؛ وإلى الشمال جموع حربية النزعة، تتكاثر دون تفكير في العواقب، وتتنقل في قلق واضطراب، وتعبر بعد زمن قد يقصر وقد يطول الحواجز الجبلية القائمة بينها وبين بلاد اليونان، وتفعل بها ما فعله الدوريون من قبل فتمزق ما سماه شيشرون الإطار اليوناني الموشى به الثوب الهمجي (١٥)، وتدمر حضارة لا تفقه لها معنى. وقلما كانت هذه الأمم المحيطة ببلاد اليونان تعنى بما كان يعده اليونان جوهر الحياة وأغلى ما فيها، ألا وهو الحرية - حرية الحياة والتفكير، والقول والعمل. وكان كل شعب من هذه الشعوب، عدا الفينيقيين، يرزح تحت حكم الطغاة المستبدين، ويسلم أرواح بنيه إلى الخرافات والأوهام، ولا يعرف إلا القليل من بواعث الحرية أو الحياة العقلية. وهذا هو السبب الذي حدا باليونان إلى أن يطلقوا عليهم بلا تمييز بينهم اسم البَرْبَرُوي barbaroi أي الهمج؛ فالهمجي في اعتقادهم هو الذي يرضى بالاعتقاد دون تفكير، والذي يعيش مسلوب الحرية. ثم تتنازع الفكرتان - صوفية الشرق وعقلية الغرب - آخر الأمر جسم بلاد اليونان وروحها، فتنتصر العقلية في عهد بركليز، كما انتصرت في عهد قيصر، وليو العاشر، وفردريك؛ ولكن الصوفية كانت تعود على الدوام. وتبادل النصر بين هاتين الفلسفتين المكملة كلتاهما للأخرى هو الذي تتكون منه أهم المراحل في قصة الحضارة الغربية.