للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وكثيراً غير هذه بغير شك (١٤)؛ فكان يَعُثرُ في كل يوم على عِلمٍ جديد، وكان له من قدرته العقلية أحيانا ما يُطوَرُ به مكتشفات المصادفة إلى مخترعات مقصودة.

لكن آيته العظمى هي النار، وفي ذلك أشار "دارون" إلى أن حمم البراكين الحار قد يكون هو الذي علمّ الإنسان ما النار؛ ويقول لنا "أسخيلوس" (١) إن "برومثيوس" صنع النار بإشعاله حَطَبةً في فوهة بركان مشتعل على جزيرة "لمنوس" (١٥)؛ وبين آثار إنسان النياندرتال قِطَعُّ من الفحم وقطع من العظم المحترق، وإذن فالنار التي صنعها الإنسان تذهب في القِدَم إلى أربعين ألف عام مضت (١٦) وقد أعد إنسان "كرو- مانيون" لنفسه آنية خاصة تمسك الشحم الذي كان يشعله ليستضيء بضوئه، وإذن فالمصباح كذلك له من العمر هذا الزمن الطويل؛ والراجح أن تكون النار هي التي مكنت الإنسان من اتقاء البرد الناشئ عن الجليد الزاحف؛ وهي التي أتاحت له النوم في الليل آمنا من الحيوان الذي ارتعد لهذه الأعجوبة ارتعاداً يَعدِل عبادة الإنسان البدائي إياها؛ وهي التي قهرت الظلام فكانت أول عامل من العوامل التي حَدَّت من الخوف، والتقليل من خوف الإنسان أحد الخيوط الذهبية في نسيج التاريخ الذي ليست كل خيوطه ذهبا، وهي التي أدت أخيرا إلى صهر المعادن والتحام بعضها في بعض، وهي الخطوة الوحيدة الحقيقية التي تقَدَمها الإنسان في فنون الصناعة من عهد إنسان "كرو- مانيون" إلى عصر الانقلاب الصناعي (١٧).

وإننا لنروي لك عجبا- وكأنما نرويه لنوضح قصيدة "جوتييه" (٢) على


(١) أسخيلوس مسرحي يوناني قديم، ومن أهم مسرحياته "برومثيوس" الذي علم الإنسان سر النار فعذبه جميع الآلهة لذلك، إذ كان هذا السر من علم الآلهة وحدهم. (المعرب)
(٢) شاعر فرنسي عاش في القرن التاسع عشر؛ والقصيدة المشار إليها عنوانها "الفن" وهي مترجمة إلى العربية في الجزء الثالث من قصة الأدب في العالم ص ١٤٢ - ١٤٤. (المعرب)