للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

هي النار. ولعله كان في هذا الجواب متأثراً بعبادة الفرس للنار. وأكبر الظن أنه كان يستعمل هذا اللفظ استعمالاً رمزياً وحرفياً معاً، ويقصد به الطاقة كما يقصد به النار نفسها، كما نستدل على هذا من جمعه بين النار والنفس والله في معنى واحد. على أننا ليس في وسعنا أن نقطع برأي في هذا بالاستناد إلى القليل الباقي من فلسفته. انظر مثلاً إلى قوله: "إن هذا العالم … لم يصنعه إله ولا إنسان، ولكنه كان منذ الأزل، وهو كائن، وسيكون، ناراً حية أزلية، توقد بقدر، وتنطفئ بقدر" (٢٠)، وكل شيء صورة من صور النار، فهو إما في "طريق" النار "إلى أسفل" في تكثفها المتتابع إلى رطوبة، فماء، فأرض؛ أو إلى "طريقها إلى أعلى" من الأرض، إلى الماء، إلى الرطوبة (١)، إلى النار (٥٤).

ومما يضايق هرقليطس في النار الخالدة أنها تتبدل تبدلاً لا يقف عند حد، وإن كان يجد فيها ثباتاً يخفف عنه ما يسببه هذا التبدل من ضيق؛ والمحور الثاني الذي يدور حوله تفكيره هو أبدية "هذا التبدل ووجوده في كل شيء، فهو لا يجد قط شيئاً جامداً في الكون أو في العقل أو في النفس؛ فلا شيء كائن بل


(١) وربما كان في عقل هرقليطس شيء يشبه نظرية السديم، على النحو الآتي: يبدأ العالم ناراً، (أو حرارة أو طاقة)، ثم تستحيل غازاً أو أبخرة، تتكثف وتسقط ماءً، وتتكون من رواسبها الكيميائية بعد أن تتبخر المواد الصلبة التي في الأرض (٥٥)، والماء والأرض (أي السوائل والأجسام الصلبة) مرحلتان من عملية واحدة وصورتان من حقيقة واحدة (٢٥). "الأشياء جميعها تتحول إلى نار، والنار تتحول إلى جميع الأشياء" (٢٢). وكل التغيرات "طريق إلى أسفل أو أعلى"، أي انتقال من إحدى صور الطاقة أو النار إلى صورة أخرى منها، تارة أكثر منها تكثفاً وطوراً أقل - والطريق إلى أعلى أو إلى أسفل واحد لا يتغير (٦٩). والتلطيف والتكثيف حركتان في دورة دائبة من التغير؛ والأشياء كلها تتكون في طريق الحقيقة إلى أسفل، وهو طريق التكثف، أو طريقها إلى أعلى وهو طريق التلطيف من النار، ثم تعود مرة أخرى إلى النار، والأشكال جميعها صور من طاقة واحدة كامنة وراءها. وقد عبر اسبنوزا عن هذا بقوله: إن النار أو الطاقة هي المادة الخالدة الموجودة في كل مكان أو هي المبدأ الأساسي. والتكثيف والتلطيف (الطريق إلى أسفل أو إلى أعلى) هما خاصتان. وصورها الخاصة أو أساليبها هي الأشياء الظاهرة في العالم.