للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الرزين، الذي يفحص عن أسباب اختيار هذا الشيء وتجنب ذاك، والذي يطرد الأفكار الباطلة التي ينشأ عنها معظم ما يزعج النفس من اضطراب.

ونخلص من هذا إذن إلى أن الفهم ليس هو أسمى الفضائل فحسب، بل إنه أيضاً أسمى أنواع السعادة، لأنه يعيننا أكثر مما تعيننا أية موهبة أخرى من مواهبنا على تجنب الألم والحزن. والحكمة هي وسيلتنا الوحيدة إلى الحرية: فهي تحررنا من رق الانفعالات، ومن خوف الآلهة، والفزع من الموت؛ وهي تعلمنا كيف نتحمل مصائب الدهر، وكيف نستمد من طيبات الحياة البسيطة ولذات العقل الهادئة لذة عميقة خالدة. وليس الموت مخيفاً رهيباً كما نظنه إذا نظرنا إليه نظرة عاقلة قائمة على الذكاء والفطنة؛ فقد يكون ما ينطوي عليه من الألم أقصر أمداً وأخف وقعاً مما عانيناه المرة بعد المرة في أثناء حياتنا. والذي يخلع على الموت ما يعلق به من رهبة هو أوهامنا السخيفة عما قد يكون وراء الموت. ثم انظر إلى القليل الذي تحتاجه القناعة الحكيمة- إنها لا تحتاج إلا إلى الهواء الطلق، وأرخص الطعام، ومأوى متضع، وفراش، وقليل من الكتب، وصديق "وكل شيء طبيعي يسهل الحصول عليه، والعديم النفع وحده هو الكثير النفقة". وعلينا ألا نقضي حياتنا في نكد مستمر نحاول أن نحقق كل شهوة تطوف برؤوسنا: "وفي وسعنا أن نغفل الشهوات متى كان عجزنا عن إشباعها لا يسبب لنا ألماً بحق (٢٩) "، وحتى الحب، والزواج، والأبوة أمور يمكن الاستغناء عنها، فهي تعود علينا بلذائذ متقطعة، وبحزن لا ينتهي أبداً (٣٠). وإذا تعودنا المعيشة البسيطة، والأساليب غير المعقدة، فذلك طريق لا يكاد يخطئ يوصلنا إلى صحة الجسم (٣١). والرجل الحكيم لا يحترق قلبه بالمطامع أو شهوة الصيت؛ وهو لا يحسد أعدائه على ما نالوه من حظ طيب، بل إنه لا يحسد أصدقائه على هذا الحظ؛ وهو يتجنب ما في المدينة من حمى