للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قد يكونون من فينيقية وقد يكونون من يتكيا Utica التي أخذت وقتئذ في الاتساع- أقامت هذه الجماعة بيوتًا لها على نتوء في البحر على بعد عشرة أميال من مدينة تونس الحالية. وكان الدفاع عن شبه الجزيرة الفينيقية أمرًا سهلاً، وكانت مياه نهر بجرداس (مجردة) تروي أرضها وتفيض عليها الخصب والنماء، ولذلك كانت تعود إلى الانتعاش بسرعة بعد ما كان يحل بها من التخريب المتكرر. وتعزو الروايات القديمة إنشاء هذه المدينة إلى إليسا Elissa أو ديدو Dido ابنة ملك صور، فتقول إن أخاها قتل زوجها فأبحرت مع طائفة أخرى من المغامرين إلى إفريقيا. وسمي المكان الذي استقرت فيه كارت هدشت- أي المدينة الجديدة- تمييزًا لها عن يتيكا. وحول اليونان هذا الاسم إلى كارشدون وبدله الرومان إلى كرثاجو. وأطلق اللاتين اسم إفريقيا على الإقليم المحيط بقرطاجنة ويتكيا وسموا أهلها الساميين، كما كان يسميهم اليونان، البوني أو الفوني، أي الفينيقيين. وهاجر كثيرون من سراة أهل صور إلى إفريقيا عقب حصار سلمانصر، ونبوخذ نصر والإسكندر، واستقر معظمهم في قرطاجنة، فأصبحت بسبب هذه الهجرة مركزًا جديدًا للتجارة الفينيقية، وأخذت قوة قرطاجنة وعظمتها في الازدياد كلما أخذت صور وصيدا في الاضمحلال.

ولما ازدادت المدينة قوة دفعت أهل إفريقيا الأولين إلى الداخل شيئاً فشيئاً، وامتنعت عن أداء الجزية لهم، بل أرغمتهم على أن يؤدوها هم واستخدمتهم أرقاء وأقناناً في بيوتها ومزارعها. وكانت نتيجة هذا أن نشأت لأهل قرطاجنة ضياع واسعة كان يعمل في بعضها عشرون ألف رجل (١)، وأضحت الزراعة عند الفينيقين العمليين علمًا وصناعة، ولخص قواعدها ماجو الكاتب القرطاجني في كتاب ذائع الصيت. وشق الأهلون القنوات فأخصبت الأرض ونشأت فيها حدائق ذات بهجة، وحقول من القمح والكروم، وبساتين تنتج الزيتون والرمان والكمثرى والكرز والتين (٢). وربوا الخيل والأنعام والضأن والمعز،