للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مرتبات من بيت المال، وكان هؤلاء الشعراء يسيرون في ركابهِ حين يخرج إلى الحرب ويتغنون بانتصاراتهِ. وشاد مدينة جديدة هي مدينة الزاهرة في شرق قرطبة ضمت قصره، ومكاتب الإدارة؛ أما الخليفة الذي عنى بتدريبه على الانهماك في الفلسفة فقد بقي مهملاً يكاد يكون سجيناً في القصر الملكي القديم. وأراد ابن أبي عامر أن يزيد مركزه قوة فأعاد تنظيم الجيش وجعل معظمه من مرتزقة البربر والمسيحيين الذين كانوا يكرهون العرب، ولا يشعرون بأن للدولة عليهم حقوقاً، ولكنهم كانوا يجزونه على سخائهِ، وحسن معاملته بالولاء له شخصياً. ولما أن ساعدت ولاية ليون Leon المسيحية ثورة قامت عليه في بلادهِ، فتك بالثوار، وأوقع بأهل ليون هزيمة منكرة، وعاد منتصراً إلى عاصمتهِ؛ ولقب من ذلك الحين بالمنصور. وكثرت المؤامرات عليه، ولكنه كان يحيطها كلها بشبكة من الجاسوسية والاغتيال في الوقت المناسب؛ ولما انضم ابنه عبد الله إلى إحدى هذه المؤامرات، وافتضح أمره قطع رأسه. وكان المنصور مثل صلا الروماني لا يترك محسناً إلا أثابه ولا مسيئاً إلا انتقم منه.

وغفر الناس له جرائمه لأنه قمع جرائم غيره، وحقق العدالة للأغنياء والفقراء على السواء، حتى لم تكن الحياة ولا الأموال في قرطبة أعظم أمناً في وقت من الأوقات مما كانتا في أيامهِ، ولم يسع الناس إلا أن يعجبوا بثباتهِ، ومثابرتهِ، وفطنتهِ، وشجاعتهِ. وحدث في يوم من الأيام والمجلس منعقد برياستهِ أن شعر بألم في ساقهِ؛ فأمر باستدعاء الطبيب، ولما حضر أشار بكيها بالنار. فلم يفض المنصور المجلس، وقبل أن يحرق جسمه دون أن يظهر عليه مل يدل على ألمهِ. ويقول المقري: إن المجلس لم يعرف شيئاً مما حدث إلا بعد أن فاحت رائحة اللحم وهو يحترق (١). وكان مما فعله أيضاً ليجمع القلوب على محبتهِ أن وسع مسجد


(١) هذا هو النص الذي ننقله عن المقري: "إن المنصور كان به داء في رجلهِ واحتاج إلى الكي، فأمر الذي يكويه بذلك وهو قاعد في موضع مشرف على أهل مملكتهِ، فجعل يأمر وينهي، ويقرى القرى في أمورهِ ورجله تكوى، والناس لا يشعرون حتى شموا رائحة الجلد واللحم؛ فتعجبوا من ذلك وهو غير مكترث. (المترجم)