للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

من سلسلة متصلة من الغزوات كانت تقع على فترات منتظمة بين الشمال والجنوب، فينقض الشمال انقضاضاً عنيفاً على الجنوب المستقر الآمن، وقد كان ذلك مجرى من المجاري الرئيسية التي سارت فيها حوادث التاريخ، إذ أخذت المدنيات تعلو على سطحه وتهبط كأنها أدوار الفيضان يعلو عصراً بعد عصر، فالآريون قد هبطوا على الدرافيديين، والآخيّون والدوريّون قد هبطوا على الكريتيِّين والإيجيِّين، والجرمان قد هبطوا على الرومان، واللمبارديون قد هبطوا على الإيطاليين، والإنجليز قد هبطوا على العالم بأسره، وسيظل الشمال إلى الأبد يمد العالم بالحاكمين والمقاتلين، والجنوب يمده بالفنانين والقديسين، فالجنة إنما يرثها الجبناء.

فمن هؤلاء الآريون الذين كانوا يضربون في الأرض؟ أما هم أنفسهم فقد استعملوا كلمة "آري" ليعنوا بها "الأشراف" (في السنسكريتية آرياً معناها شريف)، لكن ربما كان هذا الاشتقاق المبنى على النزعة الوطنية أحد الأفكار البَعْدِيَّة التي تُلقي شعاعاً من التهكم المر على علم اللغات (١)، ومن المرجح جداً أن يكونوا قد جاءوا من تلك المنطقة القزوينية التي كان بنو أعمامهم من الفرس يسمونها "إيريانا فيجو" ومعناها "الوطن الآري" (٢)، وفي نفس


(١) يرى "مونيبه - وليمز" أن "آري" مشتقة من أصل سنسكريتي معناه يحرث (٢٣)، ولك أن تقارن هذا الأصل (ri-ar) بكلمتين لاتينيتين (aratrum) ومعناها محراث، و (area) ومعناها سهل مكشوف، وعلى هذا الأساس تكون كلمة "آري" معناها في الأصل فلاح لا شريف.
(٢) نجد بعض الآلهة الفيديين الصميمين مثل "إندرا" و "مترا" و "فارونا" مذكورين في معاهدة عقدت بين الحيثيين الآريين والميتانيين في بداية القرن الرابع عشر قبل الميلاد (٢٤)، وكذلك نرى أن أحد الطقوس الفيدية الخالصة، وهي شرب عصير "السوما" المقدس، يظهر أيضاً عند الفرس في احتفالهم بشرب عصير "الهوما" المقدس (مع ملاحظة أن حرف س في اللغة السنسكريتية يقابل حرف الهاء في الفارسية، ومن هنا "سوما" أصبحت "هوما" كما أصبحت كلمة "السندو" "هندو" عند الفارسيين) (٢٥) فنخلص من هذا إلى أن الميتانيين والحيثيين والكاسيين والسومريين والبكتريين والميديين والفرس والآريين ممن غزو الهند كانوا كلهم فروعاًً من أصل "هندي أوربي" انتشر في الأرض من شواطئ بحر قزوين.