للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

والحق أنه حتى إذا لم يكن اللذين يدخلون الجنة إلا قلة تختار من اللذين يدعون إليها، فإن من دخلوها فعلا في ستة عشر قرناً من التاريخ المسيحي ليبلغون عدداً كبيراً من الجماهير السعيدة، وقد أخذ تنتورتو على نفسه أن يصور لنا هذا العدد الكبير، ويمثل لنا سعادتهم. وهو لم يمِت الجنة فيصفها مكاناً مكتئباً كما وصفها دانتي، بل تصورها مكاناً مليئاً بالمرح والطرب، لا يقبل فيه إلا السعداء المبتهجون. وكأن هذا العمل كان هو الرقية التي أخرجت الفنان من سابق كراهيته للمجتمع.

لكن تلك الأيام من حياة الفنان لم تكن خالية من أسباب الحزن؛ ففي السنة التي أزيح فيها الستار عن الصورة العظيمة ماتت ابنته المحبوبة ماريتا، وكان حذقها التصوير والموسيقى من أكبر مباهجه وأسباب سلواه في شيخوخته. فلما أن فارقته لاح كأنه لا يفكر إلا في أن يراها تحيا حياة أخرى. فكان يتردد أكثر من ذي قبل على مادنا دل أورتو-سيدة الحديقة- حيث يقضي الساعات الطوال في التفكير والدعاء بعد أن أصبح آخر الأمر رجلا ذليلا. وكان لا يزال يصور، وأخرج في هذه السنين الختامية طائفة من الصور تمثل القديسة كترين لتوضع في الكنيسة المسماة باسمها. لكنه أصيب في السابعة والسبعين من عمره بمرض في معدته سبب له آلاما ممضة حرمت النوم على عينيه. فكتب وصيته، وودع زوجته، وأطفاله، وأصدقاءه؛ ومات في الحادي والثلاثين من شهر مايو سنة ١٥٩٤، وأودعت جثته في مادنا دل أورتو.

وإذا ما حاول الإنسان أن يتبين فن هذا المصور الكبير بعد أن يطوف بقاربه في مياه البندقية الضحلة ويقف أمام كل صورة من فنانها الذي لا يقل قدراً عن ميكل أنجيلو، إذا ما فعل هذا فإن أول ما ينطبع في ذهنه هو طابع الكثرة والضخامة، إذ يرى الجدران الكبيرة مغطاة بصور الآدميين والحيوانات على درجات متفاوتة من الجمال والقبح لا تقل عن