للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[من آداب التلاوة: التلقي عن أهل العلم]

ومن آدابه كذلك: أن يتلقاه عن أهل العلم المجيدين فيه، المجودين له، ولذلك أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بأخذ القرآن عن أشخاصٍ معينين، فلماذا قال في الحديث الصحيح: (خذوا القرآن من أربعة: من ابن مسعود وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبي حذيفة)؟ إذاً لا يؤخذ القرآن إلا عن المجيدين المجودين.

وكان هناك في الصحابة من حفظ القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، كما جاء في حديث أنس في الصحيحين قال: (جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة، كلهم من الأنصار: أبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد وأبو زيد، فقلت: ومن أبو زيد؟ فقال: أحد عمومتي) وجاء في الحديث: (استقرءوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب) رواه البخاري ومسلم من رواية عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما.

ولنعلم أن المسألة ليست بالحفظ فقط، فالذين حفظوا القرآن من الصحابة معروفة أسماؤهم، وكان أكثرهم يحفظ السورة والسورتين، وكان الذي يحفظ البقرة والأنعام من علمائهم، لأنهم كانوا لا يتجاوزون الآيات إلا بعد العمل بها، يعملون ثم يأخذون أخرى وهكذا.

كم سنة مكث ابن عمر في تعلم البقرة؟ ثمان سنوات يتعلم سورة البقرة، لأنهم كانوا يسعون إلى الاستفادة.

وأما موضوع تلحين القرآن والتطريب التابع لقضية تحسين الصوت، فلابد لنا من وقفة عند هذه المسألة: جاء في الحديث: (زينوا القرآن بأصواتكم)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي موسى: (لقد مررت بك البارحة وأنت تقرأ، ولقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود، فقال p=١٠٠٠٠٢٣> أبو موسى: لو أعلم أنك تسمع لحبرته لكَ تحبيراً) فمزامير آل داود؛ آل داود: هو داود نفسه، فإن العرب يقولون: آل فلان.

والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم صلِّ على آل أبي أوفى)، والمقصود بـ أبي أوفى نفسه الذي جاء بالصدقة.

مزامير آل داود، أي: أن الله أعطى داود صوتاً حسناً، لأن المزمار يطلق في اللغة على الآلة، ويطلق على الصوت الحسن، فمزامير آل داود، أي: صوت داود الحسن، أوتي أبو موسى نصيباً وجزءً من جمال صوت داود عليه السلام؛ لأن داود كان إذا قرأ الزبور: أوبت الجبال معه، والطير تقف في السماء تردد معه، من جمال صوته وحسن تلاوته، فليس المقصود المزامير هذه الآلات الموسيقية أو ما شابه ذلك معاذ الله!! س: ما معنى قوله: (زينوا القرآن بأصواتكم)؟ ج: قيل: معناه تحسين الصوت.

س: ما معنى: (من لم يتغنَ بالقرآن فليس منا)؟ ج: أي: من لم يتحزن به ويتخشع ويتباكى به ويرفع صوته فليس منا.

وقيل: يتغنى، أي: يستغني به عن غيره، أما قضية ما يحس به بعض الناس أو يظنه (من لم يتغن بالقرآن فليس منا) أن التغني من الغناء الذي هو الإفراط في التمطيط، والعبث بالمدود، فهذا ليس هو المقصود الشرعي بحال.

ولذلك فإن القدر من جمال الصوت الذي يكون الإنسان به قارئاً قراءةً مؤثرة مطلوب، وإذا زاد ووصل إلى متابعة ألحان أهل الفسق والأغاني كما يفعل الآن كثير من قراء الإذاعات على هذه النوطة الموسيقية، يقرءون القرآن على ألحان موسيقية، عندهم قواعد وألحان معروفة في الموسيقى، في الطلعات والنزلات يمشون عليها، فهؤلاء إذا استمعت إليهم فلا تشعر بأية خشوع، وإنما تكون مأخوذاً بجمال الصوت، أو أن تكون متقززاً من شدة التكلف.

وبعضهم كان يحضر في حفلة أم كلثوم في الصف الأول وعليهم العمائم من أجل أن يلتقطوا اللحن؛ لكي يقرءوا به في الإذاعة، هذا شُغل معروف عند هؤلاء القراء.

ولذلك ذم النبي صلى الله عليه وسلم هؤلاء ذماً عظيماً؛ بل أخبر أنه سيأتي في آخر الزمان قوم يقرءونه بهذه الصفات بغايةٍ من السوء، ذمهم وأخبر أنه يأتي أحدهم يُقدم، كما جاء في الحديث الصحيح: (أخاف عليكم ستةً: إمارة السفهاء، وسفك الدم، وبيع الحكم- الأخذ والرشوة- وقطيعة الرحم، ونشئاً يتخذون القرآن مزامير، وكثرة الشرط) والشرطة أعوان السلطان.

فإن قوله: (نشئاً يتخذون القرآن مزامير) المقصود بهؤلاء الذين يتكلفون ويتابعون الألحان، ويجعلون القرآن مثل الأغاني، هؤلاء الأشخاص توعدهم النبي صلى الله عليه وسلم بوعيدٍ عظيم، وأخبر أنه ربما يأتي بعضهم ويقدم في جمع القوم لا لأنه أفقههم، ولا لأنه أعلمهم، وإنما لأجل أن يغني لهم.

إذاً: الغناء والتطريب والعبث بالمدود والزيادة في الحركات، أو التأوهات، لا شك أنه أمرٌ مذموم، وصاحبه آثم، ولما سُئل الإمام أحمد رحمه الله عن القراءة بالألحان؟ قال: هي بدعة، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه ذكر في أشراط الساعة (أن يتخذ القرآن مزامير يقدمون أحدهم ليس بأقرأهم ولا أفضلهم إلا ليغنيهم غناءه) مثل: الغناء.

فيجب أن نفرق بين تحسين القراءة وتجميل الصوت، والخشوع والحزن، وبين أن الإنسان يشابه في قراءته أهل الفسق والأغاني، ويمطط ويتأوه، هذا مذموم ومحرم.

أما الترجيع الذي ورد في حديث عبد الله بن المغفل قال: (سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة يقرأ سورة الفتح، فقرأ ابن المغفل ورجّع في قراءته)، وفي لفظٍ قال: (قرأ النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح في مسيرٍ له سورة الفتح على راحلته، فرجَّع في قراءته).

قال معاوية بن قرة: [لولا أني أخاف أن تجتمع عليّ الناس لحكيتُ لكم قراءته] رواه مسلم وفي بعض الألفاظ قال: (آآآ) -ثلاث همزات وألفات متوالية- فهذا الذي حصل، قيل: إنه كان بسبب الراحلة، لأنها إذا مشت تغير صوت القارئ عليها بحسب ما تمشي عليه من الأرض غير الممهدة.

ما حكم أن يقصد الترجيع؟ قالوا: إذا قصده بدون أن يخرج بالقرآن إلى مستوى أو إلى هذه الأغاني أو أن يزيد بالمدود، ويمطط، ويجعل الفتحة ألفاً، والضمة واواً، والكسرة ياء، والياء ياءات، والألف ألفات، فهذا هو التمطيط المذموم المحرم.

أما إذا لم يخرج بالترجيع عن ذلك فلا بأس به -أي: اختلاف وتيرة الصوت أثناء القراءة- إذا لم يقصد بها ألحان الأغاني وزاد في الحروف والحركات ولم يخرجها عن حقيقتها، ومطط فلا بأس أن يتغير وتيرة الصوت، لم يقصد هذه الأشياء أو موافقة ألحان الأغاني.

<<  <  ج: ص:  >  >>