للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[تقبيل اليد والتفصيل فيه]

سبق الكلام على أنواع التقبيل: تقبيل اليد، وتقبيل القدم، وتقبيل العينين، وتقدم حديث أنس قال: (قال رجل: يا رسول الله! الرجل منا يلقى أخاه أينحني له؟ قال: لا.

قال: أفيلتزمه ويقبله؟ قال: لا.

قال: فيأخذ بيده ويصافحه؟ قال: نعم).

إذاً: في الأحوال العادية لا يستحب التقبيل إذا لقي الأخ أخاه، أما تقبيل اليد لسبب عارض، فإن كان للدنيا فإنه مكروه.

وقال سفيان الثوري: أكرهها -تقبيل اليد- على دنيا.

وقال وكيع شيخ أحمد بن حنبل رحمهما الله: إنها -أي: قبلة اليد- صلحت حين قبلت للآخرة، وأنها فسدت حين قبلت للدنيا.

وقال أحمد بن حنبل -رحمه الله تعالى- فيما نقله عنه المروذي، لما سأله عن قبلة اليد، فلم يرَ به بأساً عن طريق التدين، وكرهها على طريق الدنيا، وقال: إن كان على طريق التدين فلا بأس، فقد قبل أبو عبيدة يد عمر، وإن كان على طريق الدنيا فلا، إلا رجلاً يخاف سيفه أو سوطه.

وكذلك قال حميد زنجويه: ما كان على وجه التملق والتعظيم -أي: المكروه من المعانقة والتقبيل-.

وقال النووي في كتاب الأذكار: إن كانت لغناه ودنياه وثروته وشوكته ووجاهته عند أهل الدنيا ونحو ذلك، فهو مكروه شديد الكراهة، وقال المتولي من أصحابنا: لا يجوز، فأشار إلى أنه حرام، وإذا كان الرجل ظالماً أو مبتدعاً أو كافراً تتأكد هذه الحرمة؛ لأن الواجب هجره أصلاً والإنكار عليه، وليس تقبيل يديه.

وقال سفيان الثوري رحمه الله: تقبيل يد الإمام العادل سنة.

وقال حميد زنجويه: تقبيل اليد لا يستوجبه كل أحد.

وقال بعض أهل العلم: تقبيل يد الظالم معصية، إلا أن يكون عن خوف.

وقال ابن الوردي الشاعر:

أنا لا أختار تقبيل يد قطعها أجمل من تلك القبل

أي: هذه حقها أن تقطع، ربما يكون يد سارق وناهب، فكيف تقبل يده؟! والواجب أن تقطع في الشريعة.

وبعض الناس وخصوصاً الصوفية ورؤساؤهم، عندهم عادة تقبيل اليد، ويتخذونها كبراً وطلباً من الناس، وهذا يدل عليه تصرفاتهم، كما إذا مد يده ليقبلها الناس، تجد بعض شيوخ الصوفية الطرقيين إذا جلسوا في مجلس أو كانوا يمشون، وجاءهم الناس مدوا أيديهم، كأنه يقول: خذ قبل وتبرك وامسح! ويتبين كذلك فعل هؤلاء السفهاء بما إذا استحسنوا من تقبيل يده، تجد أنه إذا قبل شخص أيديهم ابتسموا وأكرموه وأثنوا على فعله، وقال: الله يرضى عليك، المقصود هؤلاء الصوفية ولا أقصد الوالد الذي إذا قبل الولد يده فدعا له فهذا شيء آخر، وكذلك يظهر هذا من تشنيعهم على من لم يقبل أيديهم أيضاً.

وكان السلف رحمهم الله بخلاف ذلك، إذا جاء شخص يقبل يده ربما سحب يده، وعندما استأذن رجل الإمام أحمد رحمه الله في تقبيل رأسه، قال: لم أبلغ أنا ذاك، لم أصل إلى درجة أن تقبل رأسي أنا دون ذلك، هذا من تواضعه رحمه الله تعالى، وفي رواية عبد الله قال: لم أره يشتهي أن يفعل به ذلك، فكان من ورعهم وتواضعهم رحمهم الله أنهم لا يسمحون للناس بتقبيل أيديهم ورءوسهم، ويقولون: نحن أدنى من هذا، وكره أحمد رحمه الله المسح على اليد للتبرك ونحوها، فقال لمن مسح يده عليه عمن أخذتم هذا؟ وغضب ونفض يده.

وقال ابن تيمية رحمه الله: ابتداء الإنسان بمد يده للناس ليقبلوها، وقصده لذلك، فهذا ينهى عنه بلا نزاع كائناً من كان، بخلاف ما إذا كان المقبل هو المبتدئ لذلك، فلا حرج، أما أن يمد يده للناس فهذا مما ينهى عنه.

وأيضاً اعتياد التقبيل حتى لو كان للمشايخ أو أهل العلم، فهذا فيه نظر؛ لأن الصحابة لقوا النبي صلى الله عليه وسلم مراراً وتكراراً، وما نقل عنهم أنهم كلما رأوه قبلوا رأسه ويده.

نعم! قد تأتي العالم في المرة الأولى فتقبل رأسه أو يده، لكنك تأتيه في الدرس الذي يليه ثم الذي يليه ودائماً تواظب على هذه العادة فربما أدى هذا إلى شيء من الغلو.

وكذلك قال ابن مفلح رحمه الله: تقبيل اليد لم يكونوا يعتادونه إلا قليلاً، ومن شعار بعض المبتدعة قرن تقبيل اليد بالمصافحة، فما صافح أحدهم صاحبه إلا قبل كل منهم يد صاحبه.

وهذه أيضاً مسألة لا أصل لها، تجد بعض الناس في بعض الأماكن كلما صافح الأول الثاني هذا يقبل اليد وهذا يقبل اليد الأخرى، وأحياناً يقبل يد نفسه، كأنه يقبل اليد التي لامست يد الآخر، وهذا أيضاً مما لا دليل عليه.

<<  <  ج: ص:  >  >>