للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

سادساً: مناقشته للتعاريف:

لم يكن التاج السبكي يقرِّرُ التعاريفَ كما هي فحسب، بل وجدتُه حيث لا يرتضي تعريفاً ما فإنّه يناقش المصنف فيه ويذكر ما عليه من مؤاخذات؛ منها ما يأخذه من غيره من العلماء، ومنها ما يستقلُّ بمناقشته هو بنفسه، وقد أكثرَ التاج السبكي من إيراد هذه المناقشات في ((الإبهاج)) في حين كان مقلّاً لها في كتابه ((رفع الحاجب)) ولعلَّ ذلك لأنَّ التاج السبكي والبيضاوي كلاهما من مدرسة واحدة ألا وهي مدرسة الإمام الرازي؛ لذا فكان يُوردُ على تعاريفه ما يراه لا ينسجمُ مع معطيات هذه المدرسة، في حين كان ابن الحاجب من مدرسة مخالفة لهما وهي مدرسة الإمام الآمدي، ومعلوم أن التعريف إنما يُبْنى على القواعد والأصول التي ينتهجها المؤلف أو المصنف، فلو ناقش التاج السبكي كلَّ تعاريف ابن الحاجب لانْهَدمَ بذلك ما انْبَنى عليها من مسائلَ وفروع، ولم يكن هدفُ التاج السبكي أن يَردَّ على ابن الحاجب أو يقوض أركان مدرسته، لذا كان يكتفي بتقرير تعريفاته كما هي، ولا يناقشها إلا إذا بان ضعفها أو كانت فيها مخالفةٌ لمدرسته [أي ابن الحاجب] الأصولية، والله أعلم.

ومن الشواهد الدالة على مناقشته للتعاريف:

١ - قوله في الإبهاج بعد شرح تعريف البيضاوي في الترادف: ((توالي الألفاظ المفردة الدالة على شيء واحد باعتبار واحد)) (١) قال: ((هذا شرح التعريف، وفيه نظر: فإنه أتى بالمفردة ليحترز عما أشرنا إليه [وهو: احترازٌ عن المركبة كالحد مع المحدود، والرسم مع المرسوم، فإن الحدَّ والمحدود غير مترادفين على المختار ... ]، وهو غير مضرور إلى ذلك؛ فإنّ ذلك خرج بقوله ''باعتبارٍ واحد'' إذ الحدُّ والمحدود يدلان على معنىً واحد ولكن باعتبارين كما عرفت.

ثم إنّ هذه اللفظة أعني المفردة تُصيِّرُ الحدَّ غير جامع؛ إذ يَخرجُ بها بعضُ المترادفات مثل: خمسة، ونصف العشرة، وأيضاً: قوله ''الألفاظ'' جمعٌ وأقلُّه على رأيه ثلاثة، وقد يكون الترادف من لفظين، ثم إنها جنسٌ بعيد، فلو أتى بالقول وقال: توالي كلمتين فصاعداً لَسَلِمَ من هذين الإيرادين)) (٢).

فأنت ترى أن التاج السبكي قد ناقش تعريف البيضاوي من ثلاثة وجوه:-

الأول: إتيانُه بالمفردة إحترازاً عن الحد مع المحدود، وبيّن التاج السبكي أنّ هذه اللفظة لا داعيَ لها؛ لأن الحد مع المحدود قد خرجا بقوله [أي البيضاوي] باعتبارٍ واحد، إذ الحد والمحدود وإن كانا يدلان على معنىً واحد إلا أنّه باعتباريَن مختلفيَن.

الثاني: أنّ وجودَ المفردة في الحد تُصيِّرُ الحدَّ غير جامع وذلك لأنّه يَخرجُ منه بعض المترادفات، فإنّ الخمسةَ تُرادِفُ قولنا نِصفُ العشرة وكلاهما دالٌّ على شيء واحد، لكن الخمسة لفظٌ مفرد بِخِلافِ نصف العشرة، فهو ليس مفرداً إلا أنّه مرادفٌ للخمسة، وبقوله [أي البيضاوي] المفردة لا يكون نصف العشرة مرادفاً للخمسة وهو باطل كما رأيت.

الثالث: في قوله الألفاظ، هذا جمعٌ وأقلّ الجمع على رأي البيضاوي ثلاثة، وهذا يعني أن الترادفَ لا يكون بين لفظين وهو باطل لوقوع الترادف بين لفظين فأكثر.


(١) البيضاوي، منهاج الوصول ص ٤٦
(٢) التاج السبكي، الإبهاج (١/ ٢٣٨ - ٢٣٩)

<<  <   >  >>