للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وقال ابنُ المقفَّع: لا يُقْذَفنَّ في روعِك أنّك إذا اسْتشرْتَ الرجالَ ظهر للناسِ منكَ الحاجةُ إلى رأيِ غيرِك فتَنْقَطِعَ بذلك عن المَشورة، فإنّك لا تريدُ الرأيَ لِلْفَخْرِ ولكن للانتفاعِ به، ولو أنّك أردْتَ الذِّكْرَ لكانَ أحسنُ الذِكر عند الألِبَّاءِ أنْ يُقال: لا يَنفردُ برأيِه دون ذَوي الرأيِ من إخْوانه. . . .

ولما سار سيّدُنا رسولُ اللهِ إلى قريشٍ في غَزاةِ بدرٍ نزل صلى الله عليه وسلم أدنى ماءٍ من مياه بدر، فقال له الحباب بنُ المُنذر: يا رسول الله، أرأيْتَ هذا المنزلَ أمَنْزِلٌ أنزَلَكَه اللهُ عزَّ وجل ليس لنا أن نتقدَّمه ولا أن نتأخّرَ عنه، أمْ هو الرأيُ والحربُ والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحربُ والمكيدة؛ فقال: يا رسول الله، فإنّ هذا ليسَ لك بمَنْزل، فانْهضْ بالناس حتى نأتيَ أدنى ماءٍ من مياه القوم فنَنْزلَه، ثم نُعَوِّرَ ما سواه من القُلْبِ، ثمَّ نبني عليه حوضاً فنَملأه ماءً، ثم نقاتلَ القومَ فنشربَ ولا يشربوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقدْ أشَرْتَ بالرأيِ وفعل ما أشار به الحُباب.

وفي حديث أبي هريرة: ما رأيْتُ أحداً أكثرَ مشورةً لأصحابِه من النبيّ صلى الله عليه وسلم. . . أقول: وإنّما كان يشاورُهم - كما قال علماؤنا - فيما ليس فيه نَصٌّ، وفي أمور الدّنيا، ومَنْ ظنَّ أنه كان يشاورُهم في الأحكام فقد غَفَلَ غفلةً عظيمةً كما قال الأئمة، وكذلك إنّما كانت المشاورة قبل العزمِ والتبيُّن، فإذا عزم الرسول لم يكن لبشرٍ التَّقدُّمُ على الله ورسوله، قال العلماء: فلقد شاور النبيّ أصحابَه يوم أحُدٍ في المُقام