للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الجواز أيضا فإن موافقتهم رخصة، وإظهار مذهبه عزيمة، فلو تلفت نفسه بذلك فإنه شهيد قطعا. ومما يدل على أنها رخصة ما روي عن الحسن أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لأحدهما: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم، فقال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: نعم. ثم دعا الآخر فقال له أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم. قال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: إنى أصم، قالها ثلاثا وفي كل يجيبه بأني أصم، فضرب عنقه. فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أما هذا المقتول فقد مضى على صدقه ويقينه وأخذ بفضله، فهنيئا له، وأما الآخر فقد رحمه الله تعالى فلا تبعة عليه. (١)

وأما القسم الثاني في العداوة المبينة على الأغراض الدنيوية فقد اختلف العلماء في وجوب الهجرة وعدمه، فقال بعضهم: تجب لقوله تعالى {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} وبدليل النهي عن إضاعة المال. وقال قوم: لا تجب إذ الهجرة عن ذلك المقام مصلحة من المصالح الدنيوية. ولا يعود من تركها نقصان في الدين لاتحاد الملة، وعدوه القوي المؤمن لا يتعرض له بالسوء من حيث هو مؤمن. وقال بعضهم: الحق أن الهجرة هنا قد تجب أيضا إذا خاف هلاك نفسه أو أقاربه أو هتك حرمته بالإفراط، ولكن ليست عبادة وقربة حتى يترتب عليها الثواب، فإن وجوبها محض مصلحة دنيوية لذلك المهاجر لا لإصلاح الدين فيترتب عليها الثواب، وليس كل واجب يثاب عليه لأن التحقيق أن كل واجب لا يكون عبادة، بل كثير من الواجبات لا يترتب عليه ثواب كالأكل عند شدة الجوع والاحتراز عن المضرات المعلومة أو المظنونة في المرض، فهذه الهجرة في مصالح الدنيا ليست كالهجرة إلى الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - فتكون مستوجبة لفضل الله تعالى وثواب الآخرة. وعدّ قوم من باب التقية مداره الكفار والفسقة والظلمة وإلانة الكلام والتبسم في وجوههم والانبساط معهم وإعطائهم لكف أذاهم وقطع لسانهم وصيانة العرض منهم، ولا يعد ذل من باب الموالاة المنهي عنها، بل هي سنة وأمر مشروع، فقد روى الديلمي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «إن الله أمرني بمداراة الناس، كما أمرني بإقامة الفرائض» (٢) وفي رواية «بعثت بالمداراة» (٣) وفي الجامع «سيأتيكم ركب مبغضون،


(١) مصنف ابن أبي شيبة: ٦/ ٤٧٦.
(٢) ضعيف الجامع: رقم ١٥٦٧.
(٣) وضعه في ضعيف الجامع: رقم ٢٣٣٧.