للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

نتوسل إليك بـ (دعاء) عم نبينا) على رأينا نحن. ولا بد من الأخذ بواحد من هذين التقديرين ليُفهَم الكلام بوضوح وجلاء.

ولنعرف أي التقديرين صواب لا بد من اللجوء إلى السنة، لتبين لنا طريقة توسل الصحابة الكرام بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم -.

هل كانوا إذا أجدبوا وقحَطوا قَبَع كل منهم في داره، أو مكان آخر، أو اجتمعوا دون أن يكون معهم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، ثم دعَوا ربهم قائلين: «اللهم بنبيك محمد، وحرمته عندك، ومكانته لديك اسقنا الغيث» مثلًا أم كانوا يأتون النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ذاته فعلًا، ويطلبون منه أن يدعو الله تعالى لهم، فيحقق - صلى الله عليه وآله وسلم - طلْبتهم، ويدعو ربه سبحانه، ويتضرع إليه حتى يسقوا؟

أما الأمر الأول فلا وجود له إطلاقًا في السنة النبوية الشريفة، وفي عمل الصحابة - رضي الله عنهم -، ولا يستطيع أحد من الصوفية أن يأتي بدليل يثبت أن طريقة توسلهم كانت بأن يذكروا في أدعيتهم اسم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، ويطلبوا من الله بحقه وقدره عنده ما يريدون. بل الذي نجده بكثرة، وتطفح به كتب السنة أن طريقة توسل الأصحاب الكرام بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إنما كانت إذا رغبوا في قضاء حاجة، أو كشف نازلة أن يذهبوا إليه - صلى الله عليه وآله وسلم -، ويطلبوا منه مباشرة أن يدعو لهم ربه، أي أنهم كانوا يتوسلون إلى الله تعالى بدعاء الرسول الكريم - صلى الله عليه وآله وسلم - ليس غير.

ومن أمثلة ذلك مارواه البخاري من مجيء الأعرابي إلى المسجد يوم الجمعة حيث كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يخطب، وعرضه له ضنك حالهم، وجدب أرضهم، وهلاك ماشيتهم، وطلبه منه أن يدعو الله سبحانه لينقذهم مما هم فيه، فاستجاب له - صلى الله عليه وآله وسلم -، وهو الذي وصفه ربه بقوله: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (التوبة:١٢٨)، فدعا - صلى الله عليه وآله وسلم - لهم ربه، واستجاب سبحانه دعاء نبيه، ورحم عباده ونشر رحمته، وأحيا بلدهم الميت.

ومن ذلك أيضًا ما رواه البخاري من مجيء الأعرابي السابق نفسه أو غيره إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وهو يخطب الجمعة الثانية، وشكواه له انقطاع الطرقات وتهدم البنيان، وهلاك المواشي، وطلبه منه أن يدعو لهم ربه، ليمسك عنهم الأمطار، وفعل - صلى الله عليه وآله وسلم - فاستجاب له ربه جل شأنه أيضًا.

٢ - وهذا الذي بيناه من معنى الوسيلة هو المعهود في حياة الناس واستعمالهم، فإنه إذا كانت لإنسان حاجة ما عند مدير أو رئيس أو موظف مثلًا، فإنه يبحث عمن يعرفه ثم يذهب إليه ويكلمه، ويعرض له حاجته فيفعل، وينقل هذا الوسيط رغبته إلى الشخص المسؤول، فيقضيها له غالبًا. فهذا هو التوسل المعروف عند العرب منذ القديم، وما يزال، فإذا قال أحدهم: إني توسلت إلى فلان، فإنما يعني أنه ذهب إلى الثاني وكلمه في حاجته، ليحدث بها الأول، ويطلب منه قضاءها، ولا يفهم أحد من ذلك أنه ذهب إلى الأول وقال له: بحق فلان (الوسيط) عندك، ومنزلته لديك اقض لي حاجتي.

وهكذا فالتوسل إلى الله - عز وجل - بالرجل الصالح ليس معناه التوسل بذاته وبجاهه وبحقه، بل هو التوسل بدعائه وتضرعه واستغاثته به ـ، وهذا هو بالتالي معنى قول عمر - رضي الله عنه -: «اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا» أي: كنا إذ قل المطر مثلًا نذهب إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، ونطلب منه أن يدعو لنا الله جل شأنه.

٣ - ويؤكد هذا ويوضحه تمام قول عمر - رضي الله عنه -: «وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا»، أي إننا بعد وفاة نبينا - صلى الله عليه وآله وسلم - جئنا بالعباس عم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وطلبنا منه أن يدعو لنا ربنا سبحانه ليغيثنا.

* لماذا عدل عمر عن التوسل بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى التوسل بالعباس - رضي الله عنه -، مع العلم أن العباس مهما كان شأنه ومقامه فإنه لا يُذكَر أمام شأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ومقامه؟ لأن التوسل بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - غير ممكن بعد وفاته، فأنى لهم أن يذهبوا إليه - صلى الله عليه وآله وسلم - ويشرحوا له حالهم، ويطلبوا منه أن يدعو لهم، ويؤَمِّنوا على دعائه، وهو قد انتقل إلى الرفيق الأعلى، وأضحى في حال يختلف عن حال الدنيا وظروفها مما لا يعلمه إلا الله ـ، فأنى لهم أن

<<  <   >  >>