للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وَإِنَّا قَدْ بَايَعْنَا هَذَا الرَّجُلَ عَلَى بَيْعِ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنِّى لاَ أَعْلَمُ غَدْرًا أَعْظَمَ مِنْ أَنْ يُبَايَعَ رَجُلٌ عَلَى بَيْعِ اللهِ وَرَسُولِهِ، ثُمَّ يُنْصَبُ لَهُ الْقِتَالُ، وَإِنِّى لاَ أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْكُمْ خَلَعَهُ، وَلاَ بَايَعَ فِى هَذَا الأَمْرِ، إِلاَّ كَانَتِ الْفَيْصَلَ بَيْنِى وَبَيْنَهُ». (رواه البخاري).

فهذا ابن عمر - رضي الله عنه - يعلن في أحرج المواقف ـ أي في ثورة أهل المدينة على يزيد بتحريض ابن الزبير وداعيته ابن مطيع ـ أن في عنقه كما في أعناقهم بيعة شرعية لإمامهم على بيع الله ورسوله - صلى الله عليه وآله وسلم -، وأن من أعظم الغدر أن تبايع الأمة إمامها ثم تنصب له القتال.

ولم يكتف ابن عمر بذلك في تلك الثورة على يزيد، بل روى مسلم في كتاب الإمارة من صحيحه عَنْ نَافِعٍ قَالَ: جَاءَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ إِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ مُطِيعٍ حِينَ كَانَ مِنْ أَمْرِ الْحَرَّةِ مَا كَانَ زَمَنَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ فَقَالَ: «اطْرَحُوا لِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ وِسَادَةً».

فَقَالَ: «إِنِّي لَمْ آتِكَ لِأَجْلِسَ، أَتَيْتُكَ لِأُحَدِّثَكَ حَدِيثًا سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُهُ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ لَقِيَ اللهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا حُجَّةَ لَهُ، وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً».

قال الإمام ابن العربي المالكي: «وروى الثبت العدل عن عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن محمد بن المنكدر قال: قال ابن عمر حين بويع يزيد: «إن كان خيرًا رضينا، وإن كان شرًا صبرنا».

وثبت عن حميد بن عبد الرحمن قال: «دخلنا على رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - حين استُخلِف يزيد بن معاوية فقال: «تقولون إن يزيد بن معاوية ليس بخير أمة محمد، لا أفقهها فقهًا ولا أعظمها فيها شرفًا. وأنا أقول ذلك.

ولكن والله لأن تجتمع أمة محمد أحب إلي من أن تفترق. أرأيتم بابًا دخل فيه أمة محمد ووسِعَهُم، أكان يعجز عن رجل واحد لو كان دخل فيه؟».

قلنا: لا.

قال: «أرأيتم لو أن أمة محمد قال كل رجل منهم: لا أريقُ دم أخي ولا آخذ ماله، أكان هذا يَسَعُهم؟».

قلنا: «نعم».

قال: «فذلك ما أقول لكم».

.. و (الصاحب) الذي كنَّى عنه حميد بن عبد الرحمن هو عبد الله بن عمر، والله أعلم.

وإن كان غيره فقد أجمع رجلان عظيمان على هذه المقالة، وهي تعضد أن ولاية المفضول نافذة وإن كان هنالك من هو أفضل منه إذ عقدت له. وذلك لما في حلها ـ أو طلب الفضل ـ من استباحة ما لا يباح، وتشتيت الكلمة، وتفريق أمر الأمة» (١).

٤ـ ولقد كانت هناك أسباب كثيرة لتولية معاوية ابنه يزيد للعهد من بعده:

فهناك سبب سياسي:

وهو الحفاظ على وحدة الأمة، خاصة بعد الفتن التي تلاحقت يتلو بعضها بعضًا، وكان من الصعوبة أن يلتقي المسلمون على خليفة واحد، خاصة والقيادات المتكافئة في الإمكانيات قد تضرب بعضها بعضًا فتقع الفتن والملاحم بين المسلمين مرة ثانية، ولا يعلم مدى ذلك إلا الله تعالى.

وهناك سبب اجتماعي:

وهو قوة العصبية القبلية خاصة في بلاد الشام الذين كانوا أشد طاعة لمعاوية ومحبة لبني أمية، وليس أدل على ذلك من مبايعتهم ليزيد بولاية العهد من بعد أبيه دون أن يتخلف منهم أحد.


(١) باختصار من العواصم من القواصم (ص ٢٣١).

<<  <   >  >>