للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[سلاسل أهل النار]

أما عن السلاسل التي أعدت لهم فكما قال الله عز وجل: {لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} [الفجر:٢٥ - ٢٦].

هذه الأغلال والقيود ما سمع بها البشر.

وقال الله تبارك وتعالى: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ} [الرحمن:٤١]، قال أهل العلم بالتأويل: يجمع ما بين ناصية الرجل -أعلى الرأس- وما بين قدمه بسلسلة، ومعلوم أنه لا يستطيع أحد حتى الذين يلعبون الجنباز أو غيرهم أن يؤتى برأسه إلى جنب قدمه، ولكن هذه السلسلة تجمع ما بين الناصية وما بين القدم من الخلف، بحيث لا تتكسر الفقار.

جمع النواصي مع الأقدام صيرهم كالقوس محنية من شدة الوتر قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا} [المزمل:١٢]، والأنكال هي القيود والسلاسل التي توضع بالرجل.

إن أسير الدنيا يوماً من الأيام تفك قيوده، وتفصم غلوله، أما أسير الآخرة فلا تفك قيوده أبداً، ولا تفصم غلوله أبداً، فهو الأسير حقاً، والله ما سلسلهم الله عز وجل خوفاً من انفلاتهم، ولا خوفاً من هربهم، وإنما سلسلهم زيادة في ذلهم، قال الله عز وجل: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ} [غافر:٧٠ - ٧١]، فتجمع اليد إلى العنق بالأغلال.

ولكل رجل منهم مقمع من حديد يضرب به، ولكل رجل غل مكتوب عليه اسمه كما قال علماء السلف.

فهي أغلال توضع بالعنق، وأنكال توضع بالرجل، وسلسلة تجمع ما بين النواصي والأقدام، وهذا عذاب ما سمع به البشر.

ونعيم بن حماد شيخ الإمام البخاري قيدوه وسلسلوه في محنة خلق القرآن ثم ألقوه في حفرة، فقال: إني امرئ مخاصم أمضي إلى الله عز وجل بسلاسلي وقيودي، فقالوا: فوالله ما غسلوه، وإنما ألقوه في حفرة بسلاسله.

وأما ما عند الله من قيود وسلاسل فلا يعرفها البشر، قال الله عز وجل: {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:٣٢]، قال وهب بن منبه: الذراع سبعون باعاً، والباع أبعد مما بين مكة والكوفة، فطول السلسلة أربعة آلاف وتسعمائة باع، قال أهل العلم: لا يقوم لها حديد الدنيا.

قال الله تعالى: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} [الحاقة:٣٠] أي: ضعوا الأغلال في عنقه، فيبتدره مائة ألف ملك أو يزيدون كلهم يريد أن يضع الغل في عنقه، فيقول: ألا ترحموني؟! فيقولون: كيف ولم يرحمك أرحم الراحمين! تخيل لو أن واحداً يجري خلفه مائة ألف معهم سلاسل وقيود يريدون أن يضعوا الأغلال في عنقه!! فهذا صنف من العذاب.

ثم أتى بـ (ثُم) وهي هنا للتأخر والترتيب، فقال: {ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ} [الحاقة:٣١]، والتصلية بالنار هي الغمس الكامل في النار.

ثم تأتي منزلة أعلى في العذاب، قال تعالى: {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:٣٢] يعني: سلك السلسلة فيه أشد من التصلية بالنار، فالسلك في اللغة أن تدخل قطراً صغيراً في داخل قطر أكبر، فإن كانت هذه السلسلة لا يقوم لها حديد الدنيا فكيف تدخل من استه وتخرج من فمه أو من منخريه، وهذا ما عرفه أهل الدنيا، وإنما أعد خصيصاً لأهل النار {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:٣٢].