للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تيسير الله سبحانه لطريق التوبة]

الحمد لله حبيب قلوب التائبين، ومنتهى رغبة السالكين، ومحط آمال الراحلين.

من عظم التوبة عند الله عز وجل: أن الله سهل سبيلها لهذه الأمة، فجعل مجرد الندم توبة، ولم يسهل طريقها على بني إسرائيل لما عبدوا العجل من دون الله عز وجل، فلم يتب الله عز وجل عليهم حتى قام كل رجل منهم على الآخر بسيفه، فلم يأذن الله تبارك وتعالى في التوبة لعبده موسى إلا بعد قتل سبعون ألف يهودي، كما قال الله تبارك وتعالى: {فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ} [البقرة:٥٤] يعني: اقتلوا إخوانكم ممن عبدوا العجل، وألقى الله تبارك وتعالى عليهم الظلمة، ثم أمسك الرجل من الذين لم يعبدوا العجل السكين وطعن بها من وجده ممن عبد العجل، سواء كان أباه، أو أخاه، حتى قتل سبعون ألف يهودي، ثم تاب الله تبارك وتعالى عليهم.

والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الندم توبة)، ويكفي أن يعلم الله عز وجل الصدق من قلبك فيتوب عليك.

وانظر إلى الذين تاب الله تبارك وتعالى عليهم كـ عكرمة بن أبي جهل الذي حاد الله ورسوله، وقاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه، ثم بعد ذلك من الله عليه بالتوبة، وقتل شهيداً في سبيل الله عز وجل.

وسيدنا خالد بن الوليد في معركة اليرموك يقول له: يا أبا عمرو استبقنا لنفسك، فيقول: إليك عني يا خالد، لقد قاتلت رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل معركة أفأفر اليوم عن الجنة!! من يبايع على الموت؟ فقتل، وقتل عمه، وقتل ابنه.

ويتوب الله على سجاح التي ادعت النبوة كما قال العلامة ابن كثير، بل وعلى طليحة الأزدي الذي ادعى النبوة، ولم يسلم إلا في عهد أبي بكر، وكان أحد أبطال معركة القادسية ومات شهيداً بعد القادسية، فماذا تنتظر بعد ذلك وقد فتح باب التوبة على مصراعيها.

والأمر مع الله عز وجل ليس بالأيام، ولا بعدد السنين التي قضيتها في طاعته، فقد يتوب تائب اليوم ويعلي الله تبارك وتعالى درجته، فانظر إلى السحرة الذين كانوا في أول الأمر يقسمون برأس فرعون، ويعدون القرب من فرعون مغنماً، ثم بعد ذلك يتوب الله تبارك وتعالى عليهم، فلما سجدوا نظروا إلى قصورهم في الجنة فقالوا: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:٧٢ - ٧٣].

أيها المؤمنون! لا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم آلهة، جاء في الأثر: يا داود حببني إلى خلقي، قال: كيف يا ربي؟ قال: ذكرهم بنعمي عليهم، فإنهم لم يعرفوا مني إلا الجميل، يا داود لو يعلم المدبرون عني كيف انتظاري لهم ورحمتي إياهم لتقطعت أوصالهم شوقاً إلي، هذه إرادتي في المدبرين عني، فكيف بالمقبلين علي! ادع إلى الله عز وجل لعل الله ينقذ بك أحد الشباب الضائعين فيكون في ميزان حسناتك، ويكون خيراً لك من الدنيا وما فيها، حبب الله عز وجل إلى خلقه، لا تقنطهم من رحمة الله عز وجل، لا تنظر في ذنب الناس كأنك إله، يسر الأمر على عباد الله عز وجل، ووسع لهم طريق التوبة، وضيق أنت على نفسك بالخوف، كما كان الفضيل بن عياض، فقد رأى أهل الموقف وهم يبكون فبكى رحمه الله إلى قبيل الغروب وهو قابض بيده على لحيته، ثم قال: واسوأتاه منك وإن عفوت، واخجلي منك حتى وإن غفرت لي حتى وإن تبت علي، ثم بعد ذلك يقول لـ شعيب بن حرب: من أسوأ الناس؟ قال: لا أدري، قال: من يظن أن الله عز وجل لا يغفر لهؤلاء، أفترى لو أن جماعة مثل هؤلاء أتوا إلى باب غني فسألوه دانقاً -أي: سدس درهم- أفكان يردهم مع بكائهم؟ قال: لا، قال: فوالله للمغفرة أهون على الله عز وجل من الدانق على هذا الغني.

هذا هو الفضيل بن عياض سيد من سادات الأمة، كان سيدنا سفيان بن عيينة إذا قابله يقبل يده، ويقبل رأسه، وسيدنا عبد الله بن المبارك يقول له: إيه لا يحسن هذا غيرك يا طبيب القلوب.

يقول عبد الله بن المبارك: كنت كلما قسا قلبي نظرت إلى وجه الفضيل، فجدد لي الحزن، فأمقت نفسي.

وقد كان الفضيل في أول أمره قاطع طريق، وكان عاشقاً للنساء، وبينما هو ذات ليلة يتسلق الجدار ليصل إلى معشوقته، سمع قول الله عز وجل: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد:١٦]، فقال: آن الأوان، وتاب إلى الله وقبل العلماء يديه، هذا هو الفضيل بن عياض.

وكذلك بشر الحافي، كان الإمام أحمد إذا سئل عن مسألة من مسائل الزهد يقول: أتسألوني عن الورع وفيكم بشر؟! وقد كان في بداية أمره يستمع إلى الغناء وإلى الجواري، ثم مر عابد ببابه فقال لجاريته: لمن هذا القصر؟ قالت: لسيدها بشر، قال: عبد هو أم حر؟ قالت: حر، قال: صدقت يا بنيتي! لو كان عبداً لاستعمل آداب العبودية، ولرأى حق العبودية، فسمعه بشر من بيته فخرج إلى الرجل حافياً وتاب على يديه، ثم بعد ذلك ما لبس نعلاً في رجله، وقال: حالة وصلت إلى الله عن طريقها وعرفت الله بها، لا أفارقها أبداً.