للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[زهد الإمام أحمد بن حنبل وقيامه الليل]

قال الإمام أحمد لبعض أصحابه لما ذكر الدنيا: قليلها يجزئ وكثيرها لا يجزئ.

وذكر الإمام أحمد الفقر فقال: مع الفقر الخير، وكان الإمام أحمد يؤثره على الدنيا.

ولو لم يكن للفقر إلا أن فقراء المسلمين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بخمسمائة عام يستريحون من تعب يوم القيامة، والله عز وجل يختار لنبيه دائماً الأكمل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أصبح منكم آمناً في سربه معافى في بدنه، عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها) (من أصبح منكم آمناً في سربه) أي: مطمئناً على أولاده وعلى نفسه (معافى في بدنه) أي: عنده صحة، (عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها).

وهذا رجل غني جداً كان يقول لهم: وددت لو أتخذ كل ملكي وآكل الأكلة التي أنتم تأكلونها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً).

كان يمر الهلال، والهلال، والهلال ولا يوقد في بيته صلى الله عليه وسلم نار، وكان يعيش على الأسودين: التمر والماء.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتلوى من شدة الجوع وما يجد من الدقل ورديء التمر إلا ما يسد به جوفه، وما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم منخلاً قط من يوم أن بعثه الله، ولا رأى شاة سمينة قط.

وسيدنا يوسف عليه السلام ما كان يشبع وهو على خزائن مصر، يقول: أخاف أن أشبع وأنسى الجياع.

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما تصدقت فأمضيت، أو لبست فأفنيت، أو أكلت فأبليت).

قال صالح: ربما رأيت أبي يأخذ الكسر (كسر الخبز) ينفض الغبار عنها، ويصيرها في قصعة ويصب عليها ماء ثم يأكلها بالملح، وما رأيته اشترى رماناً ولا سفرجلاً ولا شيئاً من الفاكهة إلا أن تكون بطيخة فيأكلها بخبز وعنب وتمر.

قال صالح: قال لي أبي: كانت والدتك تغزل غزلاً دقيقاً فنبيع الأستار بدرهم أو أقل أو أكثر فكان ذلك قوتنا.

قال: وكنا إذا اشترينا الشيء نستره عن أبي كي لا يراه فيوبخنا، وكان ربما خُبز له فيجعله في فخارة مع عدس وشحم، وقليل من التمر فيجيء الصبيان فيصوت بعضهم فيدفعه إليهم.

فالإمام أحمد يعطيهم الفخارة وفيها قليل من التمر فيضحكون منه ولا يأكلون، وكان يأتدم بالخل كثيراً، وكانت له قلنسوة خاطها بيده فيها خط، فإذا قام من الليل لبسها، وكنا نسمعه كثيراً يقول: اللهم سلم اللهم سلم، أتى إليه رجل وعليه فرو خلق وخريقة على رأسه، وهذا الرجل حاف في برد شديد فسلم عليه وقال: يا أبا عبد الله! قد جئت إليك من موضع بعيد ما أردت إلا السلام عليك، وأريد عبادين، وأريد إن أنا رجعت أسلم عليك، فقال: إن قدر، فقام الرجل وسلم وأبو عبد الله قاعد، فما رأيت أحداً قام من عند أبي عبد الله حتى يقوم أبو عبد الله له إلا هذا الرجل.

فقال لي أبو عبد الله: ما أشبهه بالأبدال، أو قال: إني لأذكر به الأبدال، وأخرج إليه الإمام أحمد أربعة أرغفة وقال: لو كان عندنا شيء لواسيناك.

وقال المروزي: قلت لـ أبي عبد الله: ما أكثر الداعي لك.

قال: أخاف أن يكون هذا استدراجاً بأي شيء.

وقلت: قدم رجل من طرسوس فقال: إنا كنا في بلاد الروم في الغزو إذا هدأ الليل رفعوا أصواتهم بالدعاء لـ أبي عبد الله، وكنا نمد المنجنيق ونرمي عن أبي عبد الله، ولقد رمي عنه بحجر والعلج متترس بدرقة، فلما رموه بالحجر ودعوا باسم أبي عبد الله فذهب الحجر برأس هذا الفارس، فتغير وجه أبي عبد الله وقال: ليته لا يكون استدراجاً ومكراً.

هذا خوف الكبار على أنفسهم.

وقال المروزي: رأيت طبيباً نصرانياً خرج من عند أحمد ومعه راهب فقال: إنه سألني أن يجيء معي ليرى أبا عبد الله.

وقال علي بن أبي فزاره جارنا: كانت أمي مقعدة -أي: مصابة بالشلل- من نحو عشرين سنة، فقالت لي يوماً: اذهب إلى أحمد بن حنبل فسله أن يدعو لي.

فأتيت إلى الإمام فدققت عليه في دهليزه، فقال: من هذا؟ قلت: رجل سألتني أمي وهي مقعدة أن أسألك الدعاء لها، فسمعت كلامه كلام رجل مغضب وقال: نحن أحوج أن تدعو هي لنا، ثم قال: فوليت منصرفاً وأنا حزين، فخرجت عجوز وقالت: قد تركته يدعو لها.

فقال: فدققت الباب، فخرجت أمي على رجليها تمشي.

قال عبد الله بن الإمام أحمد: كان أبي في كل يوم وليلة يصلي ثلاثمائة ركعة، فلما مرض من تلك الأسواط أضعفته، فكان يصلي كل يوم مائة وخمسين ركعة، وهنا يستفاد شيء فقهي أن صلاة الليل من النفل المطلق؛ وأفضل الصلاة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ما زاد عن إحدى عشرة ركعة، أو عن ثلاث عشرة ركعة، ولكن هذا الحديث لا يدل على المنع من أن تزيد على الثلاث عشرة ركعة أو إحدى عشرة ركعة، وليس في الزيادة ابتداع لأن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر ركعة كما يقول تميم الداري: كنا نقرأ بالمئين، وكنا نعتمد على العصي من طول القيام، وما كنا ننصرف إلا عند طلوع الفجر خشية أن يفوتنا الفلاح (السحور).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن تكثير الركعات كانت عوضاً عن طول القيام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان ركوعه نحواً من قراءة خمسين آية، وسجوده نحواً من ذلك، وهذا قول شيخ الإسلام ابن تيمية وابن قدامة والإمام النووي وابن عبد البر وجماهير علماء المسلمين، والشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين، فالمراد: صلاة معظم الليل والله أعلم.