للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[كتب الإمام أحمد وعلمه]

بلغت كتب الإمام أحمد يوم مات حمل اثني عشر جملاً، ما كان على ظهر كتاب منها حديث إلا ويحفظه.

قال الإمام الحافظ إبراهيم الحربي: رأيت أبا عبد الله كأن الله جمع له علم الأولين والآخرين.

وقال إسحاق بن راهويه شيخ الإمام البخاري: كنت أجالس أحمد وابن معين ونتذاكر فأقول: ما فقه هذا الحديث ما تفسيره؟ فيسكتون جميعاً إلا أحمد.

وقال أبو بكر الخلال تلميذ الإمام أحمد: كان أحمد قد كتب كتب أهل الرأي -وهم الأحناف- وحفظها ثم لم يلتفت إليها.

وقال يحيى بن آدم الإمام الحافظ: أحمد بن حنبل إمامنا.

وكان الإمام أحمد أعلم الناس قاطبة بحديث سفيان الثوري، قال شيخه عبد الرحمن بن عدي: من أراد أن ينظر إلى ما بين كتفي الثوري فلينظر إلى هذا.

وأشار إلى الإمام أحمد.

قال المروزي تلميذ الإمام أحمد: غشي على الإمام أحمد عند ابن عيينة لما زحمه الناس، فقال شيخه سفيان بن عيينة: مات خير الناس، ظن أنه قد مات لما اشتد الزحام، والإمام أحمد يقول: كفى! وهم يدوسون عليه فغشي عليه، ثم أفاق بعد ذلك رحمه الله.

أراد شيخ أن يدخل على الإمام أحمد فقال: كنا عند ابن عيينة سنة ففقدت أحمد بن حنبل أياماً فدللت على موضعه، فجئت فإذا هو في شبيه بكهف في مكان يسمى جياد بمكة بعد الصفا، فقلت: سلام عليكم أأدخل؟ قال: لا، ثم قال بعد ذلك: ادخل.

قال: فدخلت عليه فإذا عليه قطعة لبد خلق -يعني: قطعة من الصوف مقطعة- فقلت له: لم حجبتني؟ فقال: حتى استترت منك، فقلت: ما شأنك؟ قال: سُرقت ثيابي، مثل ما كانوا في مجلس مالك بن دينار فقعد الرجل يقول كلاماً فأبكى الجميع، وبعدها أتى يبحث عن نعله فلم يجده فقال: كلنا يبكي فمن سرق النعل؟ فقال هذا الرجل: فبادرت إلى منزلي فجئته بمائة درهم فعرضتها عليه فامتنع، فقلت: قرضاً فأبى.

وظل ينقصها حتى بلغت عشرين درهماً فأبى، فقمت وقلت: ما يحل لك أن تقتل نفسك، فقال: ارجع، فرجعت، فقال: أليس قد سمعت معي من ابن عيينة؟ قلت: بلى قال: تحب أن أكتبه وأن أنسخه لك؟ قلت: نعم.

فقال: اشتر لي ورقاً فاشترى له الورق، فنسخ له الإمام أحمد من كتابه في هذه الأوراق فكتب بدراهم اشترى منها ثوبين، وهذا يدل على عفّة العلماء وورعهم، وربما جمع أحدهم المرقعات من المزابل فغسلها في نهر دجلة فصنع منها ثوباً يكسو عورته، ثم يبكي ويقول: ما ضرهم ما أصابهم! جبر الله لهم بالجنة كل مصيبة.

واستمع إلى العجب العجاب من إمام أهل السنة: قال الإمام أحمد: قدمت صنعاء أنا ويحيى بن معين فمضيت إلى عبد الرزاق في قريته.

الإمام أحمد اكترى نفسه عند الجمّالين حمالاً يأخذ متاع الناس الحجيج الذاهبين من مكة إلى اليمن، فكان يخدمهم وهو إمام أهل السنة، وذلك لأنه سمع أن عند عبد الرزاق الصنعاني إمام أهل اليمن ومحدثها أحاديث ليست عنده، فأراد أن يأتي إلى عبد الرزاق، ولا توجد وسيلة إلا أن يخدم قافلة للحجيج ذاهبة إلى اليمن.

ذهب الإمام أحمد ووصل إلى بيت عبد الرزاق في قريته، قال: فلما ذهبت أدق الباب، قال لي بقّال: لا تدق فإن الشيخ يُهاب، وعبد الرزاق الصنعاني كانت له هيبة عظيمة مثل الإمام مالك يقولون عنه: يدع الجواب فلا يراجع هيبة والسائلون نواكس الأذقان نور الوقار وعز سلطان التقى فهو المهيب وليس ذا سلطان وكان الملك العادل ملك مصر، كان إذا رأى عبد الغني المقدسي يقوم له فيقولون له: إنه فقير وإنه قارئ، قال: والله ما دخل عليَّ مرة إلا وخُيِّل إليّ أنه سبع، فالبقال يقول للإمام أحمد: لا تدق عليه الباب فإن للمشايخ هيبة، قال: فلما ذهبت أدق الباب قال لي بقال تجاه داره: مه لا تدق فإن الشيخ يُهاب، فجلست حتى إذا كان قبل المغرب خرج، فوثبت إليه وفي يدي أحاديث انتقيتها، فسلمت وقلت له: حدثني بهذه رحمك الله فإني رجل غريب.

فقال: ومن أنت؟ وزبرني -يعني كلمه بشدة- فقلت: أنا أحمد بن حنبل فتقاصر عبد الرزاق وضمني إليه، وقال: بالله أنت أبو عبد الله؟ ثم أخذ الأحاديث وجعل يقرؤها حتى أظلم الليل، فقال للبقال: هلم المصباح حتى خرج وقت المغرب، وكان عبد الرزاق يؤخر صلاة المغرب، ولما ذكر الإمام عبد الرزاق الصنعاني الإمام أحمد دمعت عيناه وقال: بلغني أن نفقته نفدت قال: فأخذت بيده، فأقمته خلف الباب وما معنا أحد فقلت: إنه لا تجتمع عندنا الدنانير، إذا بعنا الغلة أشغلناها في شيء، يعني: القمح أو الذرة أو الشعير قال: وقد وجدت عند النساء عشرة دنانير فخذها وأرجو أن لا تنفقها حتى يتهيأ شيء.

قا عبد الرزاق: فقال لي: يا أبا بكر لو قبلت من أحد شيئاً قبلت منك.

ولم يقبل الإمام أحمد بن حنبل.

وكان أحمد بن حنبل يصلي إماماً بـ عبد الرزاق الصنعاني فسها الإمام أحمد، فسأل عنه عبد الرزاق: لماذا سها في صلاته بالقرآن؟ فأخبر أنه لم يأكل منذ ثلاثة أيام، يعني: من شدة الجوع نسي آيات من كتاب الله عز وجل.