للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[احتجاج مصطفى محمود بأحاديث النهي عن تدوين السنة والرد عليه]

يقول الدكتور: ولقد أجمع رواة الأحاديث على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن تدوين الأحاديث، وجاء هذا النهي في أكثر من حديث لـ أبي هريرة.

وهذا أيضاً كذب منه، فالإجماع الذي حكاه الشيخ أحمد محمد شاكر محدث الديار المصرية، والإجماع الذي نقله حافظ الدنيا الإمام الحافظ ابن حجر في فتح الباري على عكس ذلك.

يقول الدكتور: وقد نهى عن تدوين الأحاديث وجاء هذا النهي في أكثر من حديث لـ أبي هريرة وعبد الله بن عمر وزيد بن ثابت وأبي سعيد الخدري وعبد الله بن مسعود في كلمات قطعية لا تقبل اللبس! أقول: أولاً نحسن الظن بكل المسلمين بداية، ونقول: إن الرجل يستفاد منه في مجال عجائب المخلوقات؛ فهذا مجاله، وأما فوق هذا فلا وألف لا، فقد ادعى الإجماع على أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بأخذ الكتب وإحراقها، فمن أين أتت لنا السنة القولية والفعلية؟ والحمد لله أنه قد رد على أمثاله؛ لأن هذا أصل قول المستشرقين، حيث قالوا: إن السنة تأخر تدوينها إلى عهد عمر بن عبد العزيز أو أيام محمد بن شهاب الزهري، فهو أول من دون السنة، وهو رد على ذلك، واستشهد بحديث عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه) رواه الإمام مسلم في كتاب الزهد والرقائق، باب التثبت في الحديث وحكم كتابة العلم.

وقد أجاب العلماء على هذا الحديث بأنه حديث منسوخ بأحاديث أتت من بعده تجوز الكتابة، وحكى ذلك الإمام ابن قتيبة، والإمام أبو سليمان الخطابي في معالم السنن، والشيخ أحمد محمد شاكر شيخ الديار المصرية، وذكر ذلك الحافظ ابن حجر العسقلاني في الفتح، والأحاديث التي فيها أمر بالكتابة وأتت متأخرة عن حديث أبي سعيد الخدري تبين هذا، منها: حديث رواه الإمام البخاري من حديث أبي هريرة: (أن رجلاً من أهل اليمن قال: اكتب لي يا رسول الله! فقال: اكتبوا لأبي فلان).

وفي رواية الإمام مسلم: (اكتبوا لـ أبي شاه) رواه الإمام البخاري في كتاب العلم، باب كتابة العلم، ورواه الإمام مسلم في كتاب تحريم مكة وصيدها.

الحديث الثاني: ما رواه همام بن منبه قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: (ما من أصحاب النبي أحد أكثر حديثاً مني، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو -يعني عبد الله بن عمرو بن العاص - فإنه كان يكتب ولا أكتب).

وسيدنا عبد الله بن عمرو بن العاص له صحيفة تسمى: الصحيفة الصادقة، نقلها علماء الحديث بتمامها، فليس معقولاً أن النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بحرق الأحاديث فيقوم سيدنا عبد الله بن عمرو بن العاص بإخفاء الأحاديث عنه ثم إخراجها بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، وهل يعقل هذا؟ كذلك من الأحاديث في الرد عليه: حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: (كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، فنهتني قريش وقالوا: أتكتب كل شيء ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا؟! فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأومأ بإصبعه إلى فيه وقال: اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق) رواه الإمام أبو داود والدارمي وأحمد والحاكم في المستدرك والخطيب البغدادي في تقييد العلم، وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة.

وقال أبو جحيفة: قلت لـ علي رضي الله عنه: (هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء من العلم؟ قال: لا، إلا كتاب الله، أو فهم أعطيه رجل مسلم، أو ما في هذه الصحيفة، قال: قلت: وما هذه الصحيفة؟ قال: فيها العقل -الديات- وفكاك الأسير، وألا يقتل مسلم بكافر) رواه الإمام البخاري ومسلم.

ثم قالوا أيضاً في الرد عليهم: وأين أنتم من كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل والمقوقس وغيرها؟! فأورد العلماء عدة أقوال في ذلك، منها: أن أحاديث النهي عن الكتابة كانت متقدمة، ثم نسخت بأحاديث إذن النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة أن يكتبوا عنه بعد ذلك.

القول الثاني: أن النهي كان عن كتابة الحديث والقرآن في صحيفة واحدة؛ لئلا يختلط الحديث بالقرآن، كما قال ذلك الإمام أبو سليمان الخطابي والقاضي عياض.

القول الثالث: أن النهي كان خاصاً بوقت نزول القرآن، نقل ذلك الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني.

قال الشيخ شاكر رحمه الله: أجمعت الأمة إجماعاً قطعياً على الأمر بتقييد العلم، والأمر بتقييد أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم.

وقال الحافظ ابن حجر في الفتح (١/ ٢٠٤): الأمر استقر، والإجماع -إجماع الصحابة- انعقد على جواز كتابة العلم، بل على استحبابه، بل لا يبعد وجوبه على من خشي النسيان.

بهذا يكون الكلام الذي قاله الدكتور كذباً حيث يقول: انعقد الإجماع على حرق كل الأحاديث.

ثم يأتي الحافظ ابن حجر العسقلاني الذي هو أعلم الناس في علم الحديث فينقل الإجماع على استحباب تقييد العلم بل على وجوبه ولله الحمد.