للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[كلام أهل العلم في الصدق]

ثم تعال بعد ذلك إلى كلام أهل العلم في الصدق، فهناك صدق في الأقوال، ولذلك عندما قال الوليد بن عبد الملك لـ عمر بن عبد العزيز: كذبت، قال: ما كذبت مذ علمت أن الكذب يشين صاحبه.

وقال محمد بن كعب: والله! ما يكذب الكاذب إلا لهوان نفسه عليه! ولذا ذكر من الثلاثة الذين لا يكلمهم الله عز وجل ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم: (ملك كذاب)؛ فالقطر كله ملكه ويكذب، فما الذي يضطره إلى الكذب وهو يستطيع أن يفعل ما يفعل؟! قال عليه الصلاة والسلام: (ملك كذاب، وعائل مستكبر) يعني فقيراً متكبراً.

(وشيخ زان)، أي: بعدما انقطعت أسباب الشهوة ومادة الشهوة من هذا العجوز مازال الفجور فيه.

وقال مطرف بن طريف: والله! ما أود أني كذبت كذبة وأن لي بها الدنيا بأسرها.

وقال إياس بن معاوية بن قرة: والله! ما أود أن أكذب كذبة أعلم أن الله يغفرها وأعطى عليها عشرة آلاف درهم ولا يعلم بها إلا أبي معاوية بن قرة.

ويقول عبد الملك بن مروان لـ إسماعيل بن عبيد الله مؤدب أولاده: علمهم الصدق كما تعلمهم القرآن، وجنبهم الكذب وإن كان فيه القتل.

ومن عظم الصدق وفضله أن الله عز وجل يقول: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ} [آل عمران:٩٥]، ومن عظم الصدق أن الله عز وجل يقول: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:١٢٢]، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء:٨٧]، وأثنى الله عز وجل على أنبيائه بالصدق، قال: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر:٣٣]، وقال الله تبارك وتعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} [مريم:٥٦]، {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} [مريم:٥٤]، وقال الله تعالى عن مريم: {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} [المائدة:٧٥].

قال الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} [الحديد:١٩]، والصديقية أعلى مراتب الدين بعد مرتبة النبوة والرسالة، وهي أعلى من مرتبة التحديث، وعمر كان محدثاً، قال عليه الصلاة والسلام: (إن كان في أمتي محدثون فـ عمر)، والمحدثون أي: أن المولى عز وجل يقذف في قلوبهم الإلهام، فيخبر بشيء في الغد فيحدث مثل حادثة: يا سارية الجبل! ومن استرعى الذئب ظلم.

وأعلى مقامات الصديقية كانت لسيدنا أبي بكر الصديق، قال الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر:٣٣]، وصدق به سيدنا أبو بكر الصديق، قال سيدنا علي رضي الله عنه: والذي نفسي بيده! إن الله سمى أبا بكر في السماء صديقاً.

وأكثر الناس لو قلت لهم: أتعرف اسم سيدنا أبو بكر الصديق؟ تجد تسعين في المائة من المسلمين لا يعلمون اسمه الحقيقي، وإنما يعلمونه بكنيته وصفته أبو بكر الصديق، لكن اسمه الحقيقي لا يعلمونه وما ضره ذلك، فقد انتشر بين الناس صدقه فالكل يعرفه بأنه الصديق.

ومسيلمة مدعي النبوة، كل الناس يعلمون أنه مسيلمة الكذاب، إلى درجة أنه عندما ذهب إليه سيدنا عمرو بن العاص قبل أن يسلم، فقال له: أسمعك ما جاء به جبريل، قال: أسمعني، قال له: والذاريات ذرواً فالطاحنات طحناً، فالعاجنات عجناً إهالة وسمناً، ثم قال له: ما رأيك؟ قال: والله يا مسيلمة! إنك لتعلم أني أعلم أنك كاذب، أو قال: إنك -يا مسيلمة! - تعرف أنني أكذبك.