للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[جهود بعض قادة المسلمين في الحد من الزحف الصليبي]

ويأتي بعد ذلك فاتح عمورية الخليفة المعتصم.

أما سمعت بأرض الروم مسلمة تشكوا لمعتصم ظلم المغيرينا فتسبق الخيل أصوات استغاثتها وتملأ الكون صيحات الملبينا وتصرخ اليوم آلاف مؤلفة فهل سمعت سوى أحزان باكينا ونحن نسمع أصوات استغاثتها وليس نسمعها إلا أغانينا خضر مرابعنا بيض صنائعنا سود وقائعنا حمر مواضينا ويذبح الطهر طهر البكر في دمه ونحن نسبح في أحلام ماضينا يذكر التاريخ: أن امرأة اعتدى عليها رجل من الروم فقالت: وامعتصماه، فلما وصله خبر استغاثتها، وكان قد دعا بشراب ليشربه، فوالله ما شرب منه شيئاً، وقال للساقي: أبقه حتى أعود من غزو الروم، ثم قال: أي مدنهم أمنع، قالوا: عمورية، فانطلق على رأس الجيش إلى عمورية، وكان النصر والفتح بإذن الله.

فقد وجه المسلمون للروم صفعات عظيمة لا تنسى على مدار التاريخ.

ومن المعارك المشهورة في تاريخ الإسلام معركة ملاذكرد، وهي معركة عظيمة نصر الله عز وجل فيها المسلمين، وكانت بين السلطان ألب أرسلان وقسطنطين الرابع امبراطور الروم سنة ٦٤٣هـ، وكان عدد المسلمين في هذه المعركة لا يزيد عن ١٥٠٠٠ مقاتل، وعدد الروم ٢٠٠٠٠٠ فارس، ومعهم من الرجالة ٣٥٠٠٠ مقاتل، ومن الغزاة الذين يسكنون القسطنطينية ١٥٠٠٠، ومعهم ١٠٠٠٠٠ نقاب وحفار، و٤٠٠ عجلة تحمل النعال والمسامير، حتى إن ألب أرسلان عرض الهدنة وعرض المال؛ لأنه خاف أن تستأصل شأفة المسلمين عن آخرهم، وأن يباد الجيش المسلم عن آخره، فقد وصل مجموع جيش الروم إلى عدد مهول ومجموع المسلمين لا يزيد عن ١٥٠٠٠ مقاتل.

واقترب موعد اللقاء فصلى السلطان بالناس، ودعا وأمنوا، وبكى السلطان، وعفر وجهه في التراب، ثم خطب فقال: يا معشر الجند من شاء منكم أن ينصرف فلينصرف، فما هاهنا سلطان، وعقد ذنب حصانه بيده، ولبس البياض وتحنط، فأسرع الجيش وتحنط ولبس كل رجل كفناً، فكان يسمى هذا الجيش في التاريخ بجيش الأكفان، وكانت المفاجأة والنصر والتأييد، فقد دارت الدائرة على امبراطور الروم وهزم وقتل أصحابه وأعوانه، ونودي في آخر النهار: من يشتري أمبراطور الروم قسطنطين الرابع؟ فنادى أحد الجند من أقصى الجيش وقال: لا أشتري الكلب إلا بكلب.

ولا عجب فقد أخبرنا بذلك النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (لتغزون عصابة من أمتي البيت الأبيض)، وهو بيت كسرى.

ومن الأمثلة على مدار التاريخ الإسلامي: أمير المؤمنين محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام، صاحب موقعة قريش، كان من ملوك المسلمين بالأندلس، فجمع له النصارى في الأندلس ما جمعوا، حتى ضاق بخيل العدو الفضاء الواسع، فدخل الشك في نفوس الأمراء، وظنوا ألا نجاة من الكفار، فصاح رجل المسلمين بقول الله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا} [آل عمران:١٧٣]، ثم جاء إلى الأمير فقال له: يا أمير المؤمنين! والله ما حذرت نفسي، إنه لا رأي لمن لا يطاع، ولست أستطيع أن أجاهد وحدي، فقال له الأمير: وأنا معك، والله ما قذف بهذه الكلمة على لسانك إلا ملك، ثم كان النصر في نهاية اليوم، بعد أن تحالف كل ملوك أوروبا: ملك قشتالة، وملك البشكنش، وملك فرنسا كلهم يريد قتال محمد بن عبد الرحمن، فانتصر عليهم في معركة سليط.

ومن النماذج في التاريخ الإسلامي أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر مؤدب ملكي ليون ونافار في غزوة موبش، إذ اعتصم في حصن موبش ١٠٠٠٠٠ مقاتل، فرمى الملك الناصر الحصن بالمنجنيق، وأخرج مقاتلي الصليبين من صياصيهم، فقدموا إلى الناصر فقتلهم وأبادهم جميعاً، وغنم المسلمون ما في الحصن.

وممن يذكره التاريخ الإسلامي قائداً عظيماً من قواد المسلمين، وأميراً من أمرائهم، وهو الملك العظيم الحاجب المنصور، ومن أعاجيب هذا الملك أن أغلب جنوده كانوا ممن وقعوا في السبي فأسلموا، ولم يتفق هذا لغيره من الأمراء، ولا لغيره من الملوك، ولم تهزم له راية قط، وكانت له غزوات في الصيف، وأخرى في الشتاء، وبلغ مجموع غزواته ضد الصليبين في أسبانيا وغيرها ٥٠ غزوة.

ومما يؤثر عنه أنه كان يجمع غبار المعارك فتوضع معه كحنوط، أو لتصنع منها لبنات توضع في قبره، وكان مرة من المرات يمر بين جبلين -وقد كان يفعل الأفاعيل بجيوش الصليبيين- فاجتمعوا خلفه يريدون حصاره وجيشه، فما كان منه إلا أن نصب البيوت في بلاد الأسبان، ثم قال: نحن لا نكاد نصل إلى بلادنا إلا وقد جاء وقت الغزوة الأخرى، ولذا فسنقيم هاهنا إلى وقت الغزوة الأخرى، فإذا غزونا عدنا.

ثم ظل يقاتلهم حتى يئسوا منه، فما زال الفرنجة يسألونه أن يرحل إلى أن ألزمهم أن يحملوا على دوابهم الغنائم والسبي، وأن يمدوه بالطعام والمال ما يزوده في طريق عودته إلى أن يصل إلى بلاد المسلمين، وأن يحملوا وينحوا دية القتلى بأنفسهم.

وهو بذلك يجسد عزة الرجل المسلم.

ومن النماذج في التاريخ الإسلامي القائد المسلم الملقب بـ المنصور، فقد وصل إلى أقصى مدن الصليبيين، إذ ظل يسير قرابة أربعة أشهر في الجبال الشاهقة، وغزا مدينة تسمى شمس ياقب، وقد سميت هذه الغزوة باسم شمس ياقب، وكانت أعظم مدن النصارى بعد بيت المقدس، وكان غزوه لها سنة ٣٨٧ هـ ووصل إلى أقصى مكان من أسبانيا في بلادهم، ومن ذلك الأقوال المأثورة لهذا الملك العظيم: الملك لا ينام إذا نامت الرعية، قال: ولو استوفيت نومي لما كان في دور هذا البلد العظيم عين نائمة، يريد أنه لو نام لاحتلت جيوش الغزاة بلاد المسلمين.

روى شجاع الملك المستعين بن هود القصة التالية: قال: عندما ذهبت لمقابلة ملك النصارى الفونسو وجدته في مدينة تالي، وقد نصب على قبر الحاجب المنصور سريره، وامرأته متكئة إلى جانبه، فقال لي: يا شجاع! أما تراني قد ملكت بلاد المسلمين، وجلست على قبر ملكهم، فحملتني الغيرة على أن قلت له: لو تنفس صاحب هذا القبر - الحاجب المنصور - ما سمع منك ما يكرهه، قال: فهم أن يبطش بي، فحالت امرأته -الملكة- بيني وبينه وقالت: صدقك والله.

ومن النماذج في التاريخ الإسلامي أمير المرابطين يوسف بن تاشفين بطل معركة الزلاقة هو والمعتمد بن عباد التي وقعت في مثل هذا الشهر؛ شهر رجب، ففي هذا الشهر دارت رحى أكبر معركة خاضها المسلمون في الأندلس، والصليبيون يسمونها معركة فكر الياس، وقد كانت بين يوسف بن تاشفين بجيشه من البربر من المغرب والمسلمين في أسبانيا، وبين تحالف عباد الصليب وملوكهم: الفونسو السادس ملك قشتالة، وشانشو ملك أرغون، والقنط برنجار وفرسان من ولايات فرنسا الجنوبية، ولعب البابا دوراً عظيماً في الحث على قتال المسلمين، وأرسل الفونسو إلى ملوك النصارى في أوروبا لقتال المسلمين، فأرسل إليه يوسف بن تاشفين رسالة قال فيها: بلغنا أنك دعوت للاجتماع بك، وتمنيت أن يكون لك فلك تعبر بها البحر إلينا، فقد جزناه إليك، وجمع الله في هذه العرصة بيننا وبينك، وسترى عاقبة دعائك، {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [الرعد:١٤].

وكانت هذه المعركة العظيمة التي انتصر فيها الجيش المسلم، وهرب الفونسو عندما حل الظلام، ولم ينج من جيش الفونسو إلا ٤٠٠ أو ٥٠٠ رجل، وكان مجموع من قتل في هذه المعركة ١٨٠٠٠ صليبي، وأسر الباقون.

وفي نهاية المعركة صفت الرءوس على شكل هرم، ثم أمر فأذن للصلاة من عليها، وكانت معركة الزلاقة أو هذه المعركة التي يسمونها فكر الياس.

ومن المعارك العظيمة التي دارت بين المسلمين وأعداء الله من الصليبين وغيرهم والتي تشبه معركة الزلاقة: معركة الأرك بين أمير المؤمنين يعقوب بن يوسف وبين الملك الفونسو الثامن ملك قشتالة قائد جيوش الصليبيين، فقد أرسل الفونسو الثامن برسالة إلى الملك المنصور فمزقها وكتب في ظهرها: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} [النمل:٣٧]، وكانت المعركة العظيمة -معركة الأرك- التي انتصر فيها المسلمون.

ولا يزال التاريخ الإسلامي يذكرنا بصفحاته البيضاء، في مشارق الأرض وفي مغاربها، ويرينا أبطالاً مسلمين، وحكاماً صناديد أعادوا العزة للمسلمين.

ففي بلاد الهند كان السلطان فتح علي خان الذي استشهد في قتاله ضد الانجليز، وكان يقول: يوم من حياة الأسد خير من مائة سنة من حياة ابن آوى، أما الذين يرفضون هذه الحياة الكريمة، ويبخلون عن العطاء لدين الله عز وجل فإنهم يدفعون ضريبة الذل أضعاف أضعاف ما يقدمونه في ميدان البذل والعطاء.

ومن سلاطين الأتراك الذين فعلوا الأفاعيل بدول أوروبا: السلطان مراد الثاني الذي حكم بلاد المسلمين وسنه ١٨ سنة، فقد تفرغ لقتال ملوك أوروبا، فقد قاتل أحد ملوك أوروبا وانتصر عليه، كما انتصر على أمير الصرب، وكان يدفع له جزية سنوية مقدارها ٥٠٠٠٠ دوق ذهبي، ولما اجتمعت أوروبا كلها لقتال هذا السلطان العظيم وحاصروا مدينة بارانا انتصر عليهم، وكان ذلك في ٢٨ رجب سنة ٨٤٨هـ، ومنيت جيوش أوروبا وهي مجتمعة بهزيمة منكرة.

ومنهم السلطان العثماني سليمان القانوني، الذي فتح بلغراد في ٢٥ رمضان سنة ٩٢٧هـ، وحاصر بربع مليون جندي فينا عاصمة النمسا، ودفعوا الجزية له عن يد وهم صاغرون، وقد وصل الجيش المسلم بقيادته إلى الميدان الرئيسي في مدينة فينا عاصمة النمسا، إلا أن الشيعة بخياناتهم والدولة الصفوية اضطروه إلى أن يفك الحصار عن