للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مهما كبتت الأمة فلا بد أن تستيقظ]

أتت على المسلمين أيام بلغوا فيها من الذل مبلغاً عظيماً، ومن الهوان ما ليس بعده هوان، ففي أيام حكم الفاطميين لمصر -والفاطميين من غلاة الشيعة الإسماعيلية- الذي استمر ٢٠٨ سنوات أذلوا المصريين أيما إذلال، ومن ملوكهم الذين اشتهروا بذلك المعز لدين الله الفاطمي وكان أول خلفائهم، فقد أرسل جوهر الصقلي لبناء مدينة القاهرة وبناء المسجد الأزهر؛ لنشر الفكر الشيعي، ولسب الصحابة، ثم شاء الله عز وجل له أن يعود إلى أهل السنة على يد البطل السلطان صلاح الدين الأيوبي، ومن أعمال الفاطميين أنهم لما جاءوا إلى مصر أمسكوا بكبير علماء المصريين وكبير حفاظهم أبو بكر بن النابلسي، فقال له المعز لدين الله -الخليفة الفاطمي-: بلغنا أيها الرجل أنك تقول: لو كانت عندي عشرة أسهم لجعلت واحداً للرافضة وتسعة لليهود والنصارى، قال: ما هكذا قلت، ولكن قلت: لو كانت عندي عشرة أسهم لجعلت واحداً لليهود والتسعة الباقية للرافضة، فقال له المعز: لماذا؟ فأجابه: لأنكم غيرتم دين الأمة، وأطفأتم نور السنة، وادعيتم ما ليس لكم، فأمر بسلخه حياً، وأمر أن يقوم بسلخه يهودي، فسلخه اليهودي حتى وصل السلخ إلى منطقة القلب فرق له فطعنه بخنجر فقتله.

حكى ذلك الحافظ الذهبي في كتابه القيم (سير أعلام النبلاء).

وقد كان بدر الجمالي أمير الجيوش -وهو والي فلسطين من قبل الفاطميين- فلما جاءت جيوش أوروبا وجيوش النصارى يقودها بطرس الناسك ومعه ملوك أوروبا سقطت في أيديهم الرهى، وهي أول مدينة مسلمة تسقط في أيدي الصليبيين، ثم مدينة أنطاكية، وكانت في أيدي السلاجقة، ولم يكن لديهم أدوات حربية فسقطت الواحدة تلو الأخرى، ثم استمر زحفهم إلى بلاد المسلمين في بلاد الشام حتى وصلوا معرة النعمان فأوسعوا المسلمين قتلاً، والروايات الأوروبية التي تحكي الغزو الصليبي والحملات الصليبية تذكر أنهم قتلوا عدداً كبيراً من المسلمين في معرة النعمان، وقاموا بسلخهم بعد موتهم مباشرة، ثم شيهم وأكلوهم، وهذا ثابت في كل الروايات الأوربية التي تعرضت للحملات الصليبية.

ثم بعد ذلك واصلوا زحفهم إلى بيت المقدس، وكان بدر الجمالي أمير الجيوش وغيره من قادة الفاطميين، فما شهروا في وجه الصليبيين سيفاً، ولا أرسلوا سهماً، وكل الذي عملوه أنهم سلموا للصليبين القدس، ولما سلموها قتل الصليبيون في هذا اليوم من المسلمين ٧٠٠٠٠ في بيت المقدس، حتى ما استطاع القائد الصليبي أن يدخل إلى المسجد الأقصى إلا بعد أن غاص بين جثث المسلمين إلى ركبتيه، وجعلوا من المحراب الأكبر مكاناً لخيولهم وخنازيرهم، وعلقوا على قبة الصخرة صليبهم الأعظم، وظلت ديار المسلمين يجول فيها الشيعة الرافضة فما أن يروا قائداً يهب لجهاد الصليبيين إلا وقتلوه، فقتلوا الأمير ممدود الذي كان من أبطال المسلمين الذين قاتلوا الصليبيين في بلاد الشام، قتلوه وهو خارج من المسجد بعدما صلى الجمعة، وقد أرسل ملك الصليبيين إلى كبير المسلمين يقول له معاتباً: إن أمة قتلت عميدها، في يوم عيدها، -يوم الجمعة- في بيت معبودها -في المسجد- حقيق على الله أن يبيدها.

ثم أذن الله عز وجل أن يعود مجد المسلمين على يد بطل يسمى عماد الدين آق خنقر زنكي بن زنكي، وهو أبو البطل نور الدين محمود زنكي، فقد أذاق الفرنجة الويلات، يقول عنه ابن كثير: كان من أحسن الملوك سيرة، وأجودهم سريرة، وهو الذي أعاد الثقة إلى نفوس المسلمين بعد أن دب الوهن في قلوبهم، وفتح مدينة الرهى، أول مدينة سقطت من بلاد المسلمين.

ثم اغتاله المماليك وهو يحاصر حصون الصليبيين، فتولى الإمارة من بعده ابنه ليث الإسلام نور الدين محمود زنكي، يقول عنه الإمام أبو شامة الشافعي: أطربني ما رأيت من آثاره، وسمعت من أخباره، مع تأخر زمانه، ثم وقفت بعد ذلك على سيرة سيد الملوك من بعده الملك الناصر صلاح الدين، فوجدتهما في المتأخرين كالعمرين -أي: كـ أبي بكر وعمر - في المتقدمين، فلله درهما من ملكين تعاقبا على حكم السيرة، وجميل السريرة، والفضل للمتقدم -يريد نور الدين - فإنه أصل ذلك الخير كله للمسلمين -لأن صلاح الدين ما هو إلا عامل من عماله- فهو الذي مهد الأمور بعدله وجهاده وهيبته في جميع بلاده، ولكن صلاح الدين أكثر جهاداً، وأعم بلاداً، صبر وصابر، وسخر الله له من الفتوح أنفسها.

وكان أول شيء عمله نور الدين محمود زنكي أنه أصلح الجبهة الداخلية، فقمع الرافضة، وأظهر السنة في حلب ودمشق بعدما كان الشيعة متسلطين عليها، ويذكر أنه لما حاول بعض أمراء المسلمين أن يعيدوا السنة كان الشيعة يسحبون الحصر في المسجد الجامع من تحت أرجل المصلين، ويقولون: هذه لـ علي بن أبي طالب، فإذا أراد أبو بكر أن يصلي فليأت بحصر له.

وبعد أن قمع نور الدين محمود زنكي الرافضة والشيعة بحلب أرسل أسد الدين شيركوه ومعه ابن أخيه صلاح الدين الأيوبي إلى مصر؛ من أجل أن يعين المصريين على طرد الشيعة، ومما يذكر عن هذا البطل العظيم أنه ما فاتته صلاة الجماعة، وكان له قبيل الفجر ركعات يركعها في المسجد قبل أن يأتي الإمام، وقبل أن يأتي المؤذن ليؤذن لصلاة الفجر، وكان هو السلطان الذي ملك بلاد الشام كلها يعمل الأغلاف والسكاكر، وكانت له عجائز يبعن هذه الأغلاف والسكاكر سراً، ويعيش عليها، ويعيش من سهمه في الغنيمة.

ويذكر أن زوجته عصمة الدين بنت الأتابك خاتون بنت معين الدين أنر كانت كثيرة الصدقة، وكانت ترسل إليه أن يأتي إليها بالمال فيقول: ليس لي إلا ثلاثة دكاكين بحمص فخذيها، وأما ما أنا فيه من المال فإنما أنا خازن فيه للمسلمين، لا أخوض النار في هواك.

ويذكر أنه كان في رمضان يمتنع عن طعام المملكة ويرسل إلى شيخه عمر الملا بالموصل ليأتي إليه بالرقاق ليعيش عليه طيلة الشهر.

هذا السلطان العظيم يقول عنه الذهبي: قل أن ترى العيون مثله.

وقال ابن الأثير: ما حكم البلاد بعد عمر بن عبد العزيز أعدل من هذا الملك العظيم.

ومما ذكروا عنه: أنه كان مدمناً لصلاة الليل.

قال ابن الأثير: وكذلك كانت زوجته عصمة الدين بنت الأتابك خاتون، فقد ذكروا أنها قامت ذات ليلة غضبى من نومها، فسألها عن سر غضبها، فقالت: فاتني وردي البارحة فلم أستطع أن أصلي من الليل شيئاً، فأمر بضرب طبل خانة توقظ الناس لصلاة وقيام الليل.

وكان هذا الملك العظيم يتعرض للشهادة كما قال كاتبه أبو اليسر، ويسأل الله عز وجل أن يحشره إليه من حواصل الطير وبطون السباع، وكان شيخ الديار المصرية والشامية قطب الدين النيسابوري يقول له: بالله عليك يا مولانا السلطان لا تخاطر بنفسك، فأنت سور الإسلام ومنعته، ولو قتلت ما بقى في المسلمين أحد إلا وأعملوا فيه السيف، فيرد عليه هذا البطل العظيم ويقول: اسكت يا قطب الدين! هذه إساءة أدب مع الله عز وجل، من كان يحفظ البلاد والعباد قبلي غير الذي لا إله إلا هو؟ وكان قاضية القاضي كمال الدين يجلس للقضاء بعد أن تفشى الظلم في الجنود والقواد ويجلس معه في المجلس نور الدين مرتين كل أسبوع.

ويذكر أن أسد الدين شيركوه نائبه على المملكة جمع الحاشية والجند ثم قال: لو أوقفتموني أمام نور الدين لصلبتكم، قالوا: إذاً يطمع في مالك العامة، قال: والله لضياع ملكي أهون عندي من أن ينظر إلي نور الدين بعين ظالم، فلما سمع بذلك نور الدين سجد لله شكراً وقال: الحمد لله الذي جعل عمالنا ينصفون من أنفسهم قبل المجيء إلينا.

ومما يؤثر عنه أنه كان يكثر الصلات والنفقة على فقراء المسلمين وزهادهم وعبادهم، ويقول: كيف أقطع صلاتي بقوم يدافعون عني بسهام في الليل لا تخطئ، وإنما أنصر وأرزق بدعائهم وبإخلاصهم، وكان هذا البطل العظيم جذوة مشتعلة من الشعور بهم المسلمين، سكن الديار الشامية وكان سلطانها، وكان جيشه بمصر، فلما بلغه أن الفرنجة نزلوا على دمياط في الديار المصرية على الساحل المصري أرسل الجيش لقتال الفرنجة، وامتنع عشرين يوماً عن أكل الطعام، فما كان له إلا الشراب حتى بلغ به الضر والجهد، وأشار عليه الأطباء أنه يعرض نفسه للهلكة، فلم يكن يستطيع أن يسيغ الطعام والمسلمون محاصرون بمصر.

ومما يذكر عنه أحد قواد جيشه أن حدثه بحديث مسلسل بالتبسم فلم يبتسم، فراجعه أن يبتسم حتى يتم له سلسلة السند، فقال: إني لأستحي من الله عز وجل أن يراني مبتسماً والفرنجة يحاصرون دمياط.

واستمر به الحال حتى رأى إمام مسجده الإمام يحيى رسول الله في المنام يقول له: يا يحيى! بشر نور الدين محمود زنكي برحيل الفرنجة عن دمياط، قال: وهل من علامة يا رسول الله؟ قال: قل له: علامة تل حارم.

ثم قص عليه النبي صلى الله عليه وسلم هذه القصة: أنه لما اشتد الكرب بالمسلمين في يوم حارم، وهذه كانت أعظم معركة بينه وبين النصارى الصليبيين، وقتل فيها ١٠٠٠٠ وأسر ١٠٠٠٠، لما اشتد الكرب بالمسلمين نزل عن فرسه وجواده وعفر خديه في التراب، وقال: اللهم إن هؤلاء عبادك وهم أولياؤك، وهؤلاء عبيدك وهم أعداؤك -والقصة يرويها أبو شامة في عيون الروضتين في المجلد الأول- ثم قال: اللهم انصر دينك ولا تنصر محمود، أيش دخل محمود الكلب بين الله وبين عباده؟! وكان هذا النصر بداية وتمهيداً لفتح بيت المقدس على يد البطل صلاح الدين الأيوبي، وانتصر المسلمون في هذه