للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[معنى النسيان في قوله تعالى: (وتنسون أنفسكم)]

قال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} [البقرة:٤٤]، والنسيان هنا ليس النسيان المعهود الذي هو ضد التذكر؛ لأن النسيان الذي هو ضد التذكر لا يؤاخذ الله به، قال الله تبارك وتعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:٢٨٦].

والنسيان يأتي أحياناً كثيرة بمعنى: الترك، كما قال الله عز وجل: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة:٦٧] أي: فأهملهم؛ لقول الله عز وجل: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:٦٤].

إذاً: فمعنى: {وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} [البقرة:٤٤]: تتركون زكاة أنفسكم، وقلنا: إن النسيان هو ضد التذكر، ويأتي أيضاً بمعنى: الترك، قال الله عز وجل: {فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا} [الأعراف:٥١]، وقال الله عز وجل: {كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:١٢٦]، وقال الله عز وجل: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام:٤٤]، كل هذا من النسيان الذي بمعنى: الترك.

قال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ} [البقرة:٤٤] أي: التوراة: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:٤٤] يعني: أفلا تمنعون أنفسكم من الوقوع في هذه الحالة المخزية، أتأمر الناس بالبر وتنسى النفس.

والعقل: هو المنع، وقد سمي العقل عقلاً لأنه يعقل الإنسان عن الصفات الذميمة، ومنه يسمى: عقال البعير؛ لأنه يمنع البعير من الحركة: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:٤٤] أي: أفلا تفهمون، أفلا تمنعون أنفسكم من هذه الحالة المخزية، وهل معنى هذا أن يترك الإنسان الأمر بالبر مطلقاً حتى يفعل هذا البر، أو أن للإنسان أن يأمر بالبر وإن لم يفعله؟ قال العلماء: لا يترك الإنسان الأمر بالبر، بل عليه أن يأمر بالبر وإن لم يفعله، فالآية الكريمة حوت ثلاث فقرات: المعنى الأول: أمر الناس بالبر، والمعنى الثاني: نسيان النفس، {وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} [البقرة:٤٤]، والمعنى الثالث: تلاوة الكتاب: {وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ} [البقرة:٤٤]، ولا شك أن الذم في الآية الكريمة والتوبيخ والتقريع منصب على الفقرة الثانية: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} [البقرة:٤٤]، فأمر الناس بالبر مستحب، وقد يصل هذا الأمر إلى الوجوب في بعض الأحيان، وكذلك تلاوة الكتاب، فمن نسي نفسه، وأمر الناس بالبر، وتلا الكتاب خير ممن نسي نفسه، وترك تلاوة الكتاب، وترك أمر الناس بالبر، وكذلك هو خير ممن نسي نفسه، وأمر بالمنكر، وترك تلاوة الكتاب، وهكذا جاءت أقوال أهل العلم.

قال الحافظ ابن كثير: الغرض من هذه الآية: أن الله عز وجل ذمهم على هذا الصنيع، ونبههم على خطئهم في حق أنفسهم حيث كانوا يأمرون بالخير ولا يفعلونه، وليس المراد ذمهم على أمرهم بالبر مع تركهم للبر، فإن الأمر بالمعروف معروف، وهو واجب على العالم، ولكن الأحرى والأولى بالعالم أن يفعل ما أمرهم به ولا يختلف عنهم.

إذاً: الأمر بالبر مستحب، وقد يصل أحياناً إلى الوجوب، هذا في الدرجة الأولى، ثم يطبق الإنسان هذا الأمر على نفسه كما قال شعيب عليه السلام: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:٨٨].